لأول مرة في التاريخ الأميركي، كشف أحد المطلعين من داخل المحكمة العليا في الولايات المتحدة عامدا عن مسودة رأي في قضية حظيت بتغطية إعلامية مكثفة بقصد واضح يتمثل في تغيير مداولات المحكمة أو ردود الفعل العامة على القرار المفترض. الواقع أن محتويات المسودة- التي من شأنها أن تُـبـطِـل القرار التاريخي لعام 1973 في قضية رو ضد وايد، والذي ينشئ الحق الدستوري في الإجهاض- بالغة الخطورة ومثيرة للفزع والقنوط، ولكن كيفية حصول صحيفة بوليتيكو على المسودة مهمة أيضا، الأمر برمته ينذر بما هو أسوأ للمحكمة ذاتها، كمؤسسة، إذا كان الشخص المسؤول عن التسريب قاضيا، وليس كاتبا قانونيا شابا، وسيكون الأمر أكثر إثارة للقلق والانزعاج إذا كان المسؤول عن التسريب شخصا محافظا لا ليبراليا.سارع المعلقون إلى التكهن حول مصدر السبق الصحافي الذي سجلته صحيفة بوليتيكو، ولكن لأن مسودات الرأي تنشأ في المحكمة، وتخضع لحراسة مشددة، فمن غير المرجح على الإطلاق أن يعثر عليها شخص من الخارج بطريق المصادفة، ومن غير المحتمل أن يكون سكرتير أو مساعد- من الموظفين المثبتين الذين تعتمد حياتهم المهنية على ولائهم للمحكمة- قدم إفصاحا غير مصرح به، فهذا يعني أن التسريب حدث، أو جرى تسهيله، في الأرجح بواسطة كاتب قانوني (من خريجي القانون الشباب المتفوقين الذين يخدمون لمدة عام واحد فقط في بداية حياتهم المهنية) أو قاض.
الفارق بين الكتاب القانونيين والقضاة مهم بدرجة كبيرة، لأنه لا توجد آليات معقولة للتعامل مع حدث كهذا إذا كان المسؤول عن التسريب قاضيا، ففي كل الأحوال، لا يوجد قانون فدرالي يفرض بشكل مباشر السرية على مسودات الرأي، وعلى هذا فإن المسؤولية الجنائية ليست سوى احتمال بعيد، وتنص مدونة قواعد السلوك التي تحكم عمل الموظفين القضائيين صراحة على أن القانون الجنائي الفدرالي يحظر سرقة «أي شيء ذي قيمة للولايات المتحدة». ولكن هل يشمل هذا مسودات الرأي؟ هذه مسألة غير محسومة في أفضل تقدير. أي أن المحاكمة الجنائية ستواجه طريقا وعرا شاقا.الآلية الأكثر احتمالا للمساءلة الفردية غير جنائية، لكنها متاحة فقط للموظفين الكتابيين لا القضاة، وإذا كان المسؤول عن التسريب كاتبا قانونيا، فمن المحتمل أن يكون انتهك مدونة قواعد سلوك المحكمة الفدرالية وقد يُـفـصَـل، حيث تشير تجارب سابقة إلى أن مثل هذا الشخص يُـدان بشدة ويعاني عواقب مهنية دائمة، ولكن مرة أخرى، إذا كان لنا أن نسترشد بما يُـنشَـر على موقع «تويتر»، فيبدو أن عددا كبيرا من الليبراليين والمحافظين في الوقت الحاضر لا يمانعون في الترحيب بواحد منهم وإيوائه.من العجيب واللافت للنظر أنه إذا عمد أحد القضاة إلى تسريب مسودة، فلا ينطوي هذا على انتهاك أخلاقي، لأن المحكمة العليا تُـعفي أعضاءها من الامتثال لمدونة السلوك القضائي، ولا يمكن مُـساءلة قاض إلا من خلال إجراءات العزل، ولكن في البيئة السياسية الشديدة الاستقطاب في أميركا، من الصعب أن نتخيل أن الجمهوريين أو الديمقراطيين من الممكن أن يسمحوا بإسقاط واحد من حلفائهم القضائيين.تماما كما يصبح التسريب أكثر إثارة للانزعاج إذا كان مصدره أحد القضاة لا كاتبا قانونيا، فإنه يكون أكثر إثارة للقلق إذا كان المسؤول عن التسريب ينتمي إلى الجناح المحافظ في المحكمة، ومن المؤكد أن هذا ليس بسبب تطبيق معايير مختلفة وفقا للأيديولوجية، بل لأن انتماء المسرب الأيديولوجي يغير العاقب المترتبة على التسرب في ما يتصل بمستقبل المحكمة.لنتخيل أولا أن المسؤول عن التسريب ينتمي إلى الجناح الليبرالي في المحكمة، فمن الصعب فهم المنطق الذي يحكمهم، لقد تصور المسرب في الأرجح أن الكشف عن المسودة من شأنه أن يحمل آلافا من المحتجين على النزول إلى الشوارع، وهذا قد يفضي إلى تراجع الأغلبية، ولكن بعيدا عن كون هذا السلوك غير أخلاقي، فإنه قائم على التمني، فكما أشـار العالِـم السياسي روبرت دال، فإن المحكمة تستجيب لسياسات النخب لا سياسات الشارع، وفي الدوائر النخبوية التي ينتمي إليها القاضي صامويل أليتو (مؤلف مسودة الرأي) وبين زملائه، من المرجح أن يُـنـظَـر إلى الوقوف في وجه المحتجين «الساهرين» على أنه شارة فخر لا وصمة عار.لنتخيل الآن الحوافز التي قد تحرك المسؤول عن التسريب إذا كان من المحافظين، فمن اللافت أن مسودة الرأي المسربة عمرها ثلاثة أشهر، تُـرى ماذا قد يكون السبب وراء تسريب مسودة قديمة ومن المحتمل أن تكون مُـلغاة حتى وإن كانت (كما اقترح تقرير بوليتيكو) لا تزال تحظى بدعم أغلبية أصوات المحكمة؟ تتلخص إحدى الإجابات الواضحة في أن هدف المسرب كان منع أحد القضاة المنتمين إلى الأغلبية من الانشقاق، واقترحت بعض التقارير الإخبارية أن رئيس المحكمة العليا جون روبرتس صاغ رأيا أضيق- وهذا تسريب آخر- يؤيد قانون مناهضة الإجهاض في ولاية مسيسيبي دون أن يُـبـطِـل الحكم في قضية رو، ربما تصور مصدر محافظ أن التسريب من الممكن أن يحرج عضوا مترددا في تحالف أليتو ليحمله على اتخاذ موقف حازم. إن الظهور بمظهر المنشق بعد الانضمام إلى مسودة أليتو من شأنه أن يستدعي الازدراء الشديد- وهذه وصمة عار- في الدوائر المحافظة حيث يتحرك معظم هؤلاء القضاة.نحن لا نعرف الحقائق التي تحيط بهذا الأمر بطبيعة الحال، لكن المسرب المحافظ المفترض سيتصرف في إطار احتمال طيب لتحقيق النجاح وبقدر ضئيل من الخوف من العواقب، وعلى النقيض من هذا، قد يكون في الكشف عن مسرب ليبرالي إشارة ليس إلى الطريقة التي تعمل بها السلطة في المحكمة بل إلى ما يمكن أن يفعله الأشخاص من خارج السلطة والمذعورين. لن ينبئنا هذا إلا بأن شخصا منفردا ربما كان من الحماقة بالقدر الكافي ليتصور أن المحكمة قد تتأثر بالهتاف في الشوارع.إن الكشف عن تسريب من أحد المحافظين من شأنه أن يثبت أيضا أن بعض الناس على الأقل بين الفصيل المهيمن في المحكمة مرتبطون بالأهداف الأيديولوجية للحركة المحافظة أكثر من ارتباطهم بالمؤسسات السياسية الأميركية، وسيُـظـهِـر أن بعض المنتمين إلى ذلك الفصيل على استعداد للتخلي عن المعايير الأخلاقية، والمسؤولية الجنائية للمحكمة، واستخدام العار لتطويق أقرانهم المترددين، حتى على الرغم من أغلبيتهم المتينة في المحكمة وأنهم لا يخشون الانتقام السياسي كثيرا، فالأمر الأكثر إثارة للقلق على الإطلاق، إذا نجحوا، هو أن إغراء الخروج على القانون لاستكمال سلطتهم وقوتهم سيستمر في النمو.في أسوأ السيناريوهات، قد يكشف التحقيق الذي أمر به روبرتس أن المسؤول عن التسريب قاض محافظ، وهذا من شأنه أن يمثل قفزة حقيقية إلى المجهول مزعزعة للاستقرار، لأنه قد يوحي بأن أحد القضاة، لا يخضع لأي آلية للمساءلة، يعتقد أنه من المقبول أن يستغل لائحة المحكمة الفضفاضة أخلاقيا للإبقاء على حركته الأيديولوجية موحدة وعلى القمة، والآن لنتخيل مثل هذا القاضي ينظر في المنازعات المتعلقة بالانتخابات والتي ستصل إلى المحكمة في عام 2022 وفي 2024، وما بعدهما. إذا كان الأعضاء يقدرون أيديولوجياتهم أكثر من تقديرهم للمحكمة كمؤسسة، فإن هذا يعني أن الديموقراطية الأميركية أصبحت في خطر حقيقي.* أستاذ القانون في جامعة شيكاغو، ومؤلف كتاب «انهيار العلاجات الدستورية».* عزيز حق
مقالات
العدالة المتسربة في أميركا
08-05-2022