بينما تقصف الصواريخ الروسية المدن الأوكرانية، وفي حين يقاتل الأوكرانيون في الدفاع عن بلدهم، قد يقول بعض الواقعيين: «لقد ولى زمن القوة الناعمة»، لكن مثل هذه الاستجابة تنم عن تحليل ضحل، فالقوة هي القدرة على التأثير على الآخرين للحصول على النتائج التي تريدها، حيث يدرك الواقعي الذكي أن المرء يمكنه القيام بذلك بثلاث طرق: إما عن طريق الإكراه، أو المال، أو الجذب، بعبارة أخرى، «العصا» و«الجزرة» و«العسل».

في الأمد القريب، تكون العصا أكثر فعالية من العسل، وتتفوق القوة الصارمة على القوة الناعمة، فإذا كنت أرغب في سرقة أموالك باستخدام القوة الصارمة، فيمكنني أن أهددك بإطلاق النار عليك ثم آخذ محفظتك، ولا يهم كيف ترى أنت الأمر، وأنا أحصل على أموالك على الفور، ولكن لكي آخذ أموالك باستخدام القوة الناعمة، أحتاج إلى إقناعك بإعطائي إياها، وهذا يستغرق وقتا ولا ينجح دائما، فكل شيء يعتمد على تصورك أنت للأمر، ولكن إذا كنت قادرا على اجتذابك، فقد تكون القوة الناعمة وسيلة أقل تكلفة كثيرا للحصول على أموالك، وفي الأمد البعيد، وهنا يتفوق العسل أحيانا على العصا.

Ad

على نحو مماثل، في السياسة الدولية، تميل تأثيرات القوة الناعمة إلى أن تكون بطيئة وغير مباشرة، وبوسعنا أن نرى تأثير القنابل والرصاص على الفور، في حين قد لا تكون جاذبية القيم والثقافة مرئية إلا في الأمد البعيد، لكن تجاهل أو إهمال هذه التأثيرات خطأ فادح، لقد أدرك القادة السياسيون الأذكياء منذ فترة طويلة أن القيم من الممكن أن تخلق القوة، فإذا تمكنت من جعلك تريد ما أريد، فلن أضطر إلى إرغامك على فعل ما لا تريد أن تفعل، وإذا كان بلد ما يمثل بعض القيم التي يراها آخرون جذابة، فإن هذا يسمح له بالاقتصاد في استخدام العصا والجزرة.

تثبت الحرب في أوكرانيا صحة هذه الدروس، فبطبيعة الحال، هيمنت القوة العسكرية الصارمة على المعركة القصيرة الأمد، فاجتاحت القوات الروسية البلاد من بيلاروسيا في الشمال ومن شبه جزيرة القرم من الجنوب، واستندت قدرة أوكرانيا إلى حماية عاصمتها كييف وإحباط الغزو من الشمال إلى فعاليتها العسكرية والأخطاء التي ارتكبتها القوة الغازية.

تسعى روسيا الآن إلى الاستيلاء على جنوب وشرق أوكرانيا، ويتبقى لنا أن نرى إلى أي شيء قد تنتهي الأحداث في هذه المرحلة من الحرب، ففي الأمد القريب، ستتحدد النتيجة من خلال القوة العسكرية- بما في ذلك المعدات التي توفرها الولايات المتحدة وغيرها من دول منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)- ومن خلال ممارسة القوة الاقتصادية القسرية الصارمة، ففي حين لم ينجح التهديد بالعقوبات التجارية والمالية في إثناء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن شن غزوه العسكري، فإن العقوبات التي فُـرِضَـت بالفعل خلفت تأثيرا ضارا على الاقتصاد الروسي، ونجح تهديد العقوبات الثانوية في ردع دول مثل الصين عن مساعدة روسيا عسكريا.

لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن القوة الناعمة أيضا أدت بالفعل دورا في الصراع، ولسنوات عديدة، مارس مسؤولون أميركيون الضغوط على ألمانيا لحملها على التخلي عن مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2، محذرين إياها من أن هذا المشروع من شأنه أن يجعل أوروبا أكثر اعتمادا على الغاز الطبيعي الروسي، وأن مرور خط الأنابيب تحت بحر البلطيق من شأنه أن يضعف أوكرانيا، وقد رفضت ألمانيا، ولكن بعد ذلك جاءت صدمة الغزو الروسي، وتسببت الفظائع التي ارتُـكِـبَت ضد المدنيين في جعل روسيا غير جذابة في نظر الرأي العام الألماني إلى الحد الذي أرغم الحكومة على تعليق العمل في خط الأنابيب.

على نحو مماثل، مارست الولايات المتحدة الضغوط لفترة طويلة على ألمانيا لحملها على احترام التزامها بموجب عضويتها في الناتو بزيادة إنفاقها العسكري السنوي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، ومرة أخرى كانت ألمانيا متثاقلة في الاستجابة لهذا المطلب إلى أن وقع الغزو، الذي أجبرها على عكس موقفها بين عشية وضحاها تقريبا.

علاوة على ذلك، أثبت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي براعته بشكل خاص في استخدام القوة الناعمة، فعندما عرضت عليه الولايات المتحدة إخراجه بسرعة من أوكرانيا، أجاب بأنه يحتاج إلى الذخيرة لا إلى وسيلة نقل.

الواقع أن خبرة زيلينسكي السابقة كممثل تلفزيوني خدمته بدرجة كبيرة، فبملابسه غير الرسمية وتواصله المستمر مع وسائل الإعلام والبرلمانات الغربية، نجح في تصوير أوكرانيا كدولة جاذبة وبطولية، ولم تكن النتيجة التعاطف الغربي فحسب بل أيضا زيادة كبيرة في تسليم المعدات العسكرية التي تحتاج إليها أوكرانيا لتنفيذ مهمة القوة الصارمة التي فُـرِضَـت عليها.

بالإضافة إلى هذا، كان الكشف عن الفظائع الروسية ضد المدنيين في أماكن مثل بوتشا، إحدى ضواحي كييف، سببا كافيا للتقليل من قوة روسيا الناعمة وتعزيز التعاطف الغربي مع أوكرانيا، ويتبقى لنا أن نتعرف على التأثيرات الأبعد أمدا على القوة الناعمة الروسية، لقد صوتت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالفعل لإدانة تصرفات روسيا وطردها من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وإن كان ما يقرب من ثلث هذه الدول تقريبا، بما في ذلك العديد من الدول الإفريقية، امتنعت عن التصويت.

الجدير بالذكر أن الهند، أكبر ديموقراطية في العالم، امتنعت عن انتقاد روسيا، فهي لا تريد تعريض إمداداتها من المعدات العسكرية المصنوعة في روسيا للخطر، ولا تريد تعزيز علاقات روسيا مع الصين، التي تعتبرها الخطر الجيوسياسي الرئيسي الذي يهددها، أما عن الصين، فعلى الرغم من امتناعها عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة الغزو، فإنها صوتت ضد طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان، كما كرست مواردها الإعلامية الهائلة لدعم حملة روسيا الدعائية.

تتوقف المحصلة النهائية لكل هذا في الأمد البعيد جزئيا على نتيجة الحرب، ففي بعض الأحيان قد تكون الذاكرة قصيرة، ولكن في الوقت الحالي، تكبدت روسيا والصين خسارة من قوتهما الناعمة، ففي الأشهر التي سبقت الغزو، عمل البلدان على تعزيز محورهما السلطوي، وأعلنت الصين أن الريح الشرقية كانت لها الـغَـلَبة على الريح الغربية، واليوم أصبح هذا الشعار أقل جاذبية إلى حد كبير.

* أستاذ في جامعة هارفارد، وأحدث مؤلفاته كتاب «هل تشكل الأخلاق أي أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين ديلانو روزفلت إلى ترامب».

* جوزيف س. ناي الابن

Project Syndicate