تثبت أزمة أوكرانيا أن الاتحاد الأوروبي يواجه مشكلة على مستوى السلطة، أصبح العجز في قوته الصلبة محور تركيز الجميع في الفترة الأخيرة، لكن قصوره الفلسفي والسياسي يطرح مشكلة أكبر بعد.

تشمل أوروبا مشروعَين لبناء الهوية الأوروبية، ولا تحبذ بقية دول العالم أياً منهما، واتّضح المشروعان خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، حيث هزم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون المرشّحة القومية اليمينية المتطرفة مارين لوبان وفاز بولاية ثانية. واعتبر ماكرون حملته وسيلة لاختيار نوع الحضارة التي تريدها فرنسا وأوروبا ككل، فصوّر بلده كتجسيد مطلق للفضائل المدنية المستنيرة، فبرأيه، يُعتبر المشروع الأوروبي محاولة واسعة لتجاوز تاريخ القارة الدموي والغارق في القومية والإمبريالية والإبادات الجماعية، ويهدف الاتحاد الأوروبي إلى صقل هوية أوروبية جديدة ترتكز على مبادئ مدنية مثل القانون الدولي ضد شعار (القوة تصنع الحق)، والديموقراطية الليبرالية ضد (الأغلبية الشعبوية)، والخصوصية ضد (رأسمالية المراقبة)، وحقوق الإنسان ضد (دولة المراقبة). يحمل هذا المشروع نوعاً جديداً من الوطنية وقد أطلق، رغم نجاحه، ثورة مضادة يقودها المقتنعون بأن العولمة والتكامل الأوروبي يُهددان ثرواتهم وثقافتهم ومكانتهم، حيث تطرح لوبان نفسها كعرّابة هذه النسخة القديمة الجديدة من الهوية الأوروبية، فهي تعتبر ماكرون وكيل موت يؤيّد العولمة، مما يعني أنه سيقود فرنسا وأوروبا إلى الانتحار الثقافي، وتزعم أنها تمثّل المزارعين والعمّال المنسيّين بعد تهميش مصالحهم خدمةً للنُخَب الاقتصادية واللاجئين. جاءت الديناميات البنيوية في النظام الانتخابي الفرنسي لتؤجج العلاقة الجدلية بين هاتين النسختَين من الهوية الأوروبية، فتحوّلت المنافسة التقليدية بين اليسار الوسطي واليمين الوسطي إلى مواجهة مباشرة بين القومية العرقية المسيحية والوطنية الدولية المدنية، لكن هذا الوضع لا يقتصر على فرنسا، إذ تنتشر هذه الانقسامات في أنحاء أوروبا، وتُحرّض الحركات التي تدعو إلى «استرجاع زمام السيطرة» الناخبين ضد الانفتاح وسياسة التعاون الدولي اللذين يشكلان محور الهوية الأوروبية الجديدة.

Ad

أصبحت مشكلة اليمين الأوروبي المتطرف واضحة، فدعمت لوبان مثلاً القيم الدينية والتقليدية، لكن نَفَرت منها شريحة واسعة من سكان العالم بسبب مواقفها المعادية للأجانب والإسلام ونزعتها الضمنية إلى دعم تفوّق البيض، لكنّ أكثر ما يثير الدهشة هو تراجع جاذبية أوروبا في أجزاء متعددة من العالم أحياناً بسبب محاولة داعمي سياسة التعاون الدولي، من أمثال ماكرون، تطوير هوية مدنية، وتدعم نسخته الأوروبية المساواة بين الجنسين وحقوق الأقليات والمشاريع البيئية، لكنها مستعدة أيضاً للتخلي عن استقلال الدول لتلبية متطلبات السوق والمبادئ والمؤسسات فوق الوطنية.

قوبلت هذه الأولويات الجديدة بتُهَم النفاق، وترحّب دول أوروبية كثيرة اليوم باللاجئين الهاربين من أوكرانيا بعدما أغلقت أبوابها خلال أزمة اللاجئين السوريين في عام 2015، وذكر عدد من المشاركين في منتدى الدوحة هذه السنة أن التزام الغرب بمبدأ السيادة في أوكرانيا يبدو فارغ المضمون بعد سنوات من تحليق الطائرات المسيّرة الغربية في أجواء باكستان وأفغانستان، ألم تُغيّر هذه الدول نفسها الحدود الدولية في كوسوفو، وتُسقِط معمر القذافي في ليبيا، وتغزو العراق؟ وبعد استنزاف موارد كوكب الأرض طوال قرون، قررت أوروبا الآن أن تطرح نفسها كبطلة في مجال التغير المناخي وحماية البيئة.

أكثر ما يثير الامتعاض هو ميل الأوروبيين إلى إضفاء طابع عالمي على تجاربهم الخاصة، فيفترضون في معظم الأوقات أن ما يناسبهم يناسب الآخرين أيضاً، ولأسباب تاريخية مختلفة، أقامت معظم المجتمعات الأوروبية توازناً بين ديموقراطية الأغلبية وحقوق الأقليات والملكية الخاصة، ونحن نعتبر هذه المبادئ اليوم من المسلّمات، لكن سبق أن أثبتت ظاهرة «الربيع العربي» أن الناس في أماكن أخرى من العالم قد يستعملون حق التصويت من دون المطالبة بهذه الحزمة من المبادئ، وحاول الثائرون ضد الأنظمة الاستبدادية تحرير أنفسهم، لكنهم لم يفعلوا ذلك لتقليد الغرب.

يبدو أن العالم يوشك على الانتقال من حقبة الإمبريالية إلى إنهاء الاستعمار، فخلال الحقبة الأولى، ساهم نجاح النموذج الاقتصادي الرأسمالي وتقنيات الاتصالات الجديدة في نشر الأفكار والقيم الغربية في أنحاء العالم، لكن الدول والمجتمعات اليوم تريد الاحتفال بقيمها وثقافتها الخاصة. يترافق هذا التحول الجذري مع تداعيات عميقة على جميع الأطراف، لا سيما أوروبا، ويجب أن تتبنى القوى التي تريد تحقيق الازدهار مفهوم القوة الناعمة التي تتقبّل السيادة، وإلا سيواجه الأوروبيون دوماً تُهَماً باستعمال معاييرهم للدفاع عن امتيازات البيض وسيبقون على خلاف مع مشروع إنهاء الاستعمار الجديد، مما يعني عزل الذات عن معظم شرائح المجتمع الدولي.

* مارك ليونارد

the strategies