بعد وقت قصير على بدء الحرب الروسية في أوكرانيا في أواخر شهر فبراير، سمحت أيرلندا بدخول اللاجئين الأوكرانيين إليها بلا تأشيرة، وتوقعت وصول نحو 200 ألف شخص على مر الصراع، وصل 13500 شخص إلى البلد بحلول 28 مارس، كذلك، كانت التظاهرات ضد الغزو صاخبة وواسعة هناك، واستنكرت الحكومة حرب موسكو بقوة وكثّفت مساعداتها الإنسانية. لكنّ اتخاذ خطوات أخرى، مثل إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، يبقى مثيراً للجدل لأن تقديم هذا النوع من المساعدات يتعارض مع ركيزة استقلال أيرلندا، أي مبدأ الحياد الراسخ منذ وقت طويل.
دعم المواطنون الأيرلنديون عدم التدخل في الحروب الخارجية على مر تاريخ البلد المعاصر، مما أدى إلى ترسيخ حياده خلال الحرب العالمية الثانية وإصراره على البقاء خارج حلف الناتو، لكن تتعرّض هذه السياسة اليوم لضغوط متزايدة، حتى أن رئيس الوزراء الأيرلندي، مايكل مارتن، اعتبر الحياد «مسألة سياسية قد تتغير في أي لحظة».تزامن تغيّر الآراء أيضاً مع انتشار فكرة شائعة في دبلن مفادها أن قدرات أيرلندا العسكرية شائبة على نحو مريع، تذكر مراجعة دفاعية صادرة عن الحكومة في شهر فبراير أن دبلن تفتقر إلى «قدرات عسكرية جديرة بالثقة لحماية أيرلندا».كانت دبلن قد قاومت مساعي شركائها في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك فرنسا، لإقرار ترتيبات دفاعية وأمنية في أنحاء دول الاتحاد، يقول مايكل كينيدي، مؤرخ في الأكاديمية الأيرلندية الملكية في دبلن: «عند التطرق إلى هذه المسألة، تُسارع الأحزاب ووسائل الإعلام المؤيدة للحياد إلى تخويف الناس من نشوء أي جيش أوروبي محتمل، فيقولون «أولادنا لن يموتوا من أجل بروكسل»!كان خوف مؤيدي الحياد من أن يتخلى عنهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كفيلاً بإطلاق موجة عنف قد تُهدد «اتفاق بلفاست»، ولهذا السبب، فضّلت أيرلندا إبعاد نفسها عن جهود الاتحاد الأوروبي الرامية إلى إنشاء قوة دفاعية أوروبية، حتى أن عدم مشاركتها مذكور صراحةً في «معاهدة لشبونة» من عام 2009، وبدءاً من عام 2002، ينصّ الدستور الأيرلندي على عدم تبنّي البلد أي قرار يصدره المجلس الأوروبي حول الدفاع المشترك.في غضون ذلك، لم تتشجع أيرلندا على الانضمام إلى حلف الناتو، ونظراً إلى موقعها الجغرافي المحوري بالنسبة إلى الغرب، حصل البلد على الحماية تحت مظلة الناتو مع أنه يبقى خارج الحلف.بما أن البلد يتكل على جيرانه الأكثر قوة لضمان أمنه البحري والجوي منذ سنوات، ركّزت القوات الدفاعية الأيرلندية على الأمن البرّي الداخلي، واليوم، يتألف الجيش في معظمه من سلاح مشاة يشمل نحو 9 آلاف جندي، وفي المقابل، لم تتلقَ القوات البحرية والجوية الأيرلندية تمويلاً كبيراً، ولهذا السبب، تقتصر المعدات في البحرية على تسع سفن (أصبحت ثلاثة منها خارج الخدمة اليوم لأنها قديمة جداً)، وتفتقر القوات الجوية إلى الطائرات المقاتلة أو وسائل النقل بعيدة المدى.يقول بات ليهي، المحرر السياسي لصحيفة «آيرش تايمز»: «شاهدنا تداعيات هذا الوضع في كابول خلال الصيف الماضي، وحين اجتاحت حركة «طالبان» العاصمة الأفغانية في شهر أغسطس وكان المواطنون الأيرلنديون العاملون مع المنظمات الإنسانية لا يزالون هناك، لجأنا إلى طائرات دول أخرى لإخراج مواطنينا من البلد».أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تكثيف الخطوات التي أصبحت قيد التطوير أصلاً داخل أوروبا وأيرلندا لزيادة ميزانيات الدفاع، وتفكّر الحكومة الأيرلندية في الوقت الراهن بمضاعفة إنفاقها الدفاعي السنوي الذي يبلغ 1.2 مليار دولار، تزامناً مع تجديد التركيز على الدفاعات الجوية والبحرية.لكن حتى هذه الخطوات قد لا تكون كافية، حيث يوضح كينيدي: «لا يملك البلد الصغير إلا طريقتَين للدفاع عن نفسه. هو يستطيع الاتكال على الدفاع الجماعي، مما يعني الانضمام إلى تحالف معيّن، أو على ميزانية دفاعية ضخمة».أنفقت دول أوروبية حيادية أخرى، مثل فنلندا وسويسرا، مبالغ طائلة على جيوشها، وفرضت التجنيد الإجباري، وقامت باستثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية الدفاعية، لكن لطالما أُعيقت زيادة الإنفاق في أيرلندا بسبب الخلاف حول أسبقية التسلح أو البرامج الاجتماعية، فما الداعي للإنفاق على الدفاع إذا كان البلد يحتاج إلى الإنفاق على الإسكان أو القطاع الصحي؟في ما يخص الدفاع الجماعي، أدت الحرب الروسية الأخيرة إلى تكثيف الخطوات الرامية إلى إنشاء قوة دفاعية أوروبية، وتشمل «البوصلة الاستراتيجية»، وهي استراتيجية الدفاع الجديدة الصادرة عن الاتحاد الأوروبي في شهر مارس الماضي، خططاً لنشر قوة سريعة تتألف من 5 آلاف جندي وزيادة التدريبات المشتركة، فضلاً عن مجموعة متنوعة من التدابير الجماعية الأخرى مثل حظر توريد الأسلحة ودعم عمليات مكافحة الإرهاب، لكن إذا فرضت «البوصلة الاستراتيجية» على أيرلندا المشاركة في النشاطات العسكرية، يظن ليهي أن دبلن قد تعجز عن تنفيذ هذه الواجبات من دون إجراء استفتاء دستوري: «الاستفتاء مسألة بالغة الأهمية، فهو يطرح خطراً كبيراً على الحكومة لأن نتيجته لم تتّضح بعد استناداً إلى استطلاعات الرأي الراهنة».وفق استطلاع أجرته صحيفة «صنداي إندبندنت» ومنظمة «أيرلند ثينكس» في بداية شهر مارس، تبيّن أن 49% من المشاركين يعتبرون مفهوم الحياد الأيرلندي الأصلي بالياً، ويحمل 44% منهم رأياً مخالفاً، لكن الاستطلاع كشف أيضاً أن 63% من المشاركين يؤيدون تمسّك أيرلندا بحيادها في الملف الأوكراني، كذلك، يدعم 37% من المشاركين انضمام أيرلندا إلى حلف الناتو، وهي نسبة مرتفعة جداً مقارنةً بالمعايير التاريخية، لكنها لا تعكس رأي الأغلبية حتى الآن، لكن يكشف استطلاع آخر أجرته منظمة «ريد سي» لصالح صحيفة «بزنس بوست» في شهر مارس أن 46% من الناس يؤيدون مشاركة أيرلندا في قوة دفاع الاتحاد الأوروبي، مع أن الدستور يمنع هذه الخطوة.يضيف ليهي: «يصعب توقّع درجة تغيّر هذه النِسَب خلال حملة تنظيم الاستفتاء بعد إجراء نقاش مناسب عن هذه المسألة، لكن من الواضح أن مواقف الرأي العام بدأت تتغير».أدى هذا التبدّل واحتمال تغيير موقف أيرلندا ككل إلى تعبئة الأحزاب المؤيدة للحياد، ففي 14 مارس حذرت ماري لو ماكدونالد، زعيمة حزب «شين فين»، من محاولة استغلال الغزو الروسي لأوكرانيا لتغيير سياسة الحياد التقليدية في أيرلندا واعتبرتها مقاربة «مغلوطة»، ثم اقترح الحزب اليساري «الشعب قبل الربح»، في 23 مارس مشروع قانون يدعو إلى إجراء استفتاء حول إدراج الحياد في الدستور، ورُفض هذا المشروع في البرلمان في 30 مارس لكنه حصد دعماً من حزب «شين فين» وائتلاف من النواب المستقلين، فخسر هذا المعسكر بفارق 14 صوتاً فقط في مجلس مؤلف من 160 عضواً. حين خاطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قادة الاتحاد الأوروبي عبر الفيديو خلال قمة بروكسل، في 24 مارس عدّد مواقف الدول الأعضاء السبع والعشرين تجاه بلده، فقال: «ليتوانيا تقف إلى جانبنا، ولاتفيا تقف إلى جانبنا، وإستونيا تقف إلى جانبنا، وبولندا تقف إلى جانبنا»، لكن حين تكلم زيلينسكي عن أيرلندا، قال إنها وقفت إلى جانب بلده «تقريباً».يعكس هذا الموقف التقريبي على الأرجح توجّه أيرلندا العام في المستقبل القريب، إذ يحاول البلد اكتشاف المعنى الحقيقي لأحد مبادئه التأسيسية في عالمٍ شَهِد تغيرات كبرى منذ عصر الملوك والقياصرة.* جوناثان غورفيت
دوليات
هل تنهي الحرب الروسية حياد أيرلندا؟
13-05-2022