اليوم، لم تعُد "شنغهاي" مجرّد قرية صيد تتعرّض للاستغلال الاستعماري، كما كان الوضع خلال حرب الأفيون الأولى. بل إن أكبر مدينة في الصين وأكثرها ثراءً أصبحت من أكثر المساحات المكتظة بالسكان في العالم، إذ يتجاوز فيها العدد السكاني عتبة 25 مليون نسمة.

يبلغ الناتج المحلي الإجمالي في شنغهاي 1.39 تريليون دولار. لو كانت هذه المدينة بلداً في حد ذاته إذاً، كان اقتصادها ليصبح أكبر من المكسيك (1.32 تريليون دولار)، وإندونيسيا (1.289 تريليون)، والمملكة العربية السعودية (1.040 تريليون)، وهولندا (1.013 تريليون).

Ad

أصبحت شنغهاي اليوم مغلقة بالكامل. منذ أواخر أبريل الماضي، فرضت الصين قيوداً على السفر، وأصدرت أوامر تُجبِر الناس على ملازمة منازلهم في المراكز الاقتصادية، وأعلنت أنها تريد بذلك منع تفشي فيروس "كوفيد - 19".

يختلف مستوى القيود المرتبطة بأزمة كورونا من منطقة إلى أخرى، لكن كانت التدابير المفروضة على شنغهاي صارمة للغاية: شُيّدت حواجز معدنية في مناطق عدة لقطع الشوارع وعزل المجمعات السكنية.

وفي المباني التي سُجّلت فيها إصابات، عُزِلت المداخل الأساسية عن الفتحات الصغيرة التي يمرّ بها العاملون في قطاع الرعاية الصحية. تدخل هذه الجهود على الأرجح في خانة الحملة الصينية "صفر إصابات". لكن يبقى هذا التفسير مجرّد احتمال، لأنّ الأرقام غير منطقية.

يبدو أن معظم المصابين الجدد يحملون متحور "أوميكرون" الذي ينتقل بسرعة بين الناس، لكن خطورته تتراجع أو الوفيات التي يسببها مقارنةً بالمتحورات الأخرى.

وعند مقارنة معدل التعافي بعدد الوفيات في أنحاء الصين خلال الفترة الراهنة، سنلاحظ أن الأرقام لم تتبدّل بدرجة كبيرة منذ شهر فبراير الماضي. ما الذي تغيّر إذاً منذ بداية السنة؟

فيما يلي جزء من تقرير جيمس أونيل من صحيفة Near Eastern Outlook، بتاريخ 14 فبراير 2022:

"في 4 فبراير 2022، عُقِد اجتماع مهم في مدينة بكين الصينية بين الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. كان بوتين موجوداً في الصين تلبية لدعوة شي لحضور افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية. لكن زيارته لم تقتصر على الاحتفال بإطلاق مناسبة رياضية بارزة. وقّع الرجلان سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية التي تقوي الروابط الوثيقة أصلاً بين البلدَين الآسيويَين المتجاورَين.

من بين أهم الاتفاقيات المُوقّع عليها، أُبرِم اتفاق مدته 30 سنة، حيث وافقت روسيا على تزويد الصين بالغاز عن طريق خط أنابيب جديد يتم بناؤه لهذا الغرض تحديداً. وفي واحد من أهم المؤشرات الواردة في الاتفاق، وافق الرجلان على أن تدفع الصين كلفة الغاز بعملة اليورو. أثبتت هذه الخطوة مجدداً حجم الإصرار على الابتعاد عن الدولار الذي بدأ يخسر أهميته في التجارة الدولية تدريجاً.

بعد ذلك الاجتماع، أصدرت الحكومتان الصينية والروسية بياناً مشتركاً يتألف من 5 آلاف كلمة على الأقل. فأعلن البيان انطلاق "حقبة جديدة"، حيث يقترح الرجلان نموذجاً سياسياً دولياً جديداً يهدف إلى التخلي عن العالم أحادي القطب الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة.

ذكر البيان المشترك ما يلي: "يشهد العالم تغيّرات جذرية، وبدأت البشرية تدخل في حقبة جديدة من النمو المتسارع والتحولات العميقة". في هذه "الحقبة الجديدة"، بدا الصينيون والروس وحلفاؤهم في الجنوب العالمي مصمّمين على بناء كيان مختلف عن النظام الذي يسيطر عليه الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون منذ وقت طويل.

هكذا أعلنت روسيا والصين بكل وضوح أنهما تتوقّعان نشوء نظام عالمي جديد. وكان الخيار البديل الذي يقترحه البلدان "يستنكر التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لأغراض جيوسياسية". أراد البلدان أن ينشأ "نظام عادل ومتعدد الأقطاب من العلاقات الدولية"، ودعيا حلف الناتو إلى "التخلي عن مقاربات الحرب الباردة الأيديولوجية واحترام سيادة الدول الأخرى وأمنها ومصالحها".

لكن بعد مرور أسبوعين، أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا وردّ حلف الناتو بفرض العقوبات عليها. كانت تداعيات تلك العقوبات على اقتصادات دول "الناتو" كارثية. يستفحل التضخم في أنحاء هذه البلدان، وتنذر التوقعات المرتبطة بنمو الناتج المحلي الإجمالي بتراجع قد يصل إلى 4 بالمئة.

وبعد مرور أسبوعَين آخرَين على توغل القوات الروسية في أوكرانيا، قررت الصين إقفال شنغهاي بالكامل.

فيما يلي مجموعة من النقاط الأساسية:

• تملك أكثر من 800 مؤسسة متعددة الجنسيات مقار محلية في شنغهاي، منها 121 مصنفة من بين أفضل شركات العالم، بما في ذلك Apple، وQualcomm، وGeneral Motors وPepsico.

• تملك أكثر من 70 ألف شركة أجنبية مكاتب لها في شنغهاي (أكثر من 24 ألف منها يابانية).

• أدى توقف عمليات شركة Tesla في شنغهاي بسبب الإقفال التام إلى تراجع الإنتاج وخسارة 40 ألف وحدة من السيارات الكهربائية. تقتصر هذه الأرقام على شركة سيارات واحدة. تملك شركتا Volkswagen وGeneral Motors مصانع تابعة لها في شنغهاي أيضاً.

• تملك شركة Ford مركزاً للتصميم العالمي في شنغهاي.

• فيما يخص Apple، تملك شركة Pegatron المسؤولة عن توريد أجهزة "آي فون" مصنعاً كبيرا في شنغهاي وآخر في منطقة كونشان المجاورة. لكن أقفل المصنعان أبوابهما بسبب الإغلاق التام.

• تملك TSMC، أهم شركة لتصنيع أشباه الموصلات في العالم، منشأة إنتاج كبرى في شنغهاي (هي تنتج الرقائق التي يستعملها نظاما Apple A14 وM1 SoC بحجم 5 أو 7 نانومتر).

• تملك شركة الأدوية العملاقة AstraZeneca مركزاً عالمياً للبحث والتطوير في شنغهاي.

• أخيراً، تُعتبر شنغهاي أكبر ميناء للحاويات في العالم، فهي تنقل أكثر من 47 مليون حاوية شحن سنوياً. يعني إقفال المدينة لأكثر من شهر واحد تضرر 4 ملايين منها تقريباً.

من الواضح إذا أن إقفال مدينة شنغهاي وجّه ضربة موجعة للشركات العالمية العملاقة التي تقع في نطاق نفوذ الولايات المتحدة، وكانت تتخبط أصلاً لتعديل وضعها الاقتصادي بعد العقوبات الكارثية المفروضة على روسيا.

هذا النوع من الروابط بين مجموعة عوامل متزامنة لا يؤكد وجود علاقة سببية بينها. لكن من المعروف أيضاً أن روسيا والصين حدّدتا معايير النظام العالمي الجديد في شهر فبراير الماضي، ومن الواضح أن تحركاتهما خلال الأسابيع اللاحقة عطّلت اقتصادات القوى الغربية بأسوأ الطرق.

في النهاية، يقال إن دحض الاحتمالات المستحيلة يعني أن تكون الخيارات المتبقية صحيحة، مهما بدت مستبعدة.