إنهاء حرب الاستنزاف في أوكرانيا
غالبا ما تندلع الحروب وتستمر بسبب سوء تقدير طرفي الحرب لقوتهما النسبية، وفيما يتعلق بأوكرانيا، ارتكبت روسيا خطأ فادحا عندما قللت من تقدير عزم الأوكرانيين على القتال ومن فعالية الأسلحة التي حصلوا عليها من الناتو، ومع ذلك فإن أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي يبالغان في تقدير قدرتهما على هزيمة روسيا في ساحة المعركة، والنتيجة هي حرب استنزاف يعتقد كل طرف أنه سينتصر فيها، لكن الطرفين سيخسران؛ ويجب أن تكثف أوكرانيا جهودها في البحث عن السلام التفاوضي الذي كان مطروحا على الطاولة في أواخر مارس، والذي تخلت عنه آنذاك بعد أدلة تظهر الفظائع الروسية في "بوتشا"، وربما بسبب التصورات المتغيرة لآفاقها العسكرية.وتنص أحكام عملية السلام التي كانت قيد المناقشة في أواخر مارس على حياد أوكرانيا، مدعوما بضمانات أمنية وجدول زمني لمعالجة القضايا الخلافية مثل وضع شبه جزيرة القرم و"دونباس"، وصرح المفاوضون الروس والأوكرانيون والوسطاء الأتراك أنهم أحرزوا تقدما في المفاوضات، ثم انهارت هذه الأخيرة بعد التقارير الواردة من "بوتشا"، حيث صرح المفاوض الأوكراني بأن "المجتمع الأوكراني أصبح الآن أكثر سلبية بشأن أي مفهوم تفاوض يتعلق بالاتحاد الروسي".ولكن قضية المفاوضات لا تزال ملحة وعاجلة، والبديل ليس انتصار أوكرانيا بل حرب استنزاف مدمرة، وللتوصل إلى اتفاق يحتاج الطرفان إلى إعادة ضبط توقعاتهما.
ومن الواضح أن روسيا كانت تتوقع نصرا سريعا وسهلا عندما شنت هجوما على أوكرانيا، فقد استهانت إلى حد كبير بتقدم مستوى الجيش الأوكراني بعد سنوات من الدعم والتدريب العسكريين اللذين تلقاهما من أميركا وبريطانيا وغيرهما منذ عام 2014، وفضلا عن ذلك، استهانت روسيا بالمدى الذي ستواجه به التكنولوجيا العسكرية لحلف الناتو القوات الروسية التي تتفوق من حيت العدد، ولا شك أن أكبر خطأ ارتكبته روسيا كان افتراضها أن الأوكرانيين لن يقاتلوا أو ربما لن يغيروا مواقفهم. ومع ذلك، تبالغ أوكرانيا وأنصارها في الغرب في تقدير فرص هزيمة روسيا في ساحة المعركة، ففكرة أن الجيش الروسي على وشك الانهيار هي فكرة أمنية، إذ تمتلك روسيا القدرة العسكرية على تدمير البنية التحتية الأوكرانية (مثل خطوط السكك الحديدية التي تتعرض للهجوم الآن) والسيطرة على الأراضي في منطقة "دونباس"، وعلى ساحل البحر الأسود، ويقاتل الأوكرانيون بحزم، لكن من المستبعد جدا أن يتمكنوا من إلحاق الهزيمة بروسيا.ولا يمكن للعقوبات المالية الغربية، التي هي أقل شمولا وفعالية بكثير مما تعترف به الحكومات التي فرضتها، وإن العقوبات الأميركية ضد فنزويلا، وإيران، وكوريا الشمالية وغيرها، لم تغير سياسات تلك الأنظمة، كما أن العقوبات ضد روسيا لا ترقى بالفعل إلى الضجة التي أثيرت بشأنها، ولم يكن استبعاد البنوك الروسية من نظام المدفوعات الدولي سويفت (SWIFT) هو "الخيار النووي" الذي طالب به الكثيرون، وحسب ما ذكره صندوق النقد الدولي، سينكمش الاقتصاد الروسي بنحو 8.5 في المئة في عام 2022، وهو أمر سيئ ولكنه ليس كارثيا. وفضلا عن ذلك، تخلق العقوبات عواقب اقتصادية خطيرة للولايات المتحدة، ولأوروبا خاصة، فقد بلغ التضخم في الولايات المتحدة أعلى مستوياته منذ 40 عاما، ومن المرجح أن يستمر بسبب السيولة التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات، والتي أنشأها الاحتياطي الفدرالي في السنوات الأخيرة، وفي الوقت نفسه، تشهد اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا نموا بطيئا، وربما انكماشا، نظرا لانتشار اضطرابات سلسلة التوريد. إن الموقف السياسي المحلي للرئيس الأميركي، جو بايدن، ضعيف ومن المرجح أن يضعف أكثر مع تصاعد الصعوبات الاقتصادية في الأشهر المقبلة. ومن المرجح أيضا أن يتضاءل الدعم الشعبي للحرب نظرا لتدهور الاقتصاد، فالحزب الجمهوري منقسم بشأن الحرب، حيث لم يكن فصيل ترامب مهتما كثيرا بمواجهة روسيا بشأن أوكرانيا، وسيستاء الديموقراطيون، أيضا بصورة متزايدة من الركود التضخمي الذي من المرجح أن يكلف الحزب أغلبيته في أحد مجلسي الكونغرس أو كليهما في انتخابات التجديد النصفي لشهر نوفمبر. كما ستصل التداعيات الاقتصادية السلبية للحرب ونظام العقوبات إلى أبعاد وخيمة في عشرات البلدان النامية التي تعتمد على واردات الغذاء والطاقة. وستؤدي الاضطرابات الاقتصادية في هذه البلدان إلى دعوات عاجلة في جميع أنحاء العالم لإنهاء نظام الحرب والعقوبات.وفي غضون ذلك، لا تزال أوكرانيا تعاني بشدة من الوفيات والاضطرابات والدمار، ويتوقع صندوق النقد الدولي الآن انكماشا بنسبة 35 في المئة في الاقتصاد الأوكراني في عام 2022، مما يعكس التدمير الوحشي للمساكن والمصانع ومخزون القطارات، والقدرة على تخزين الطاقة ونقلها، والبنية التحتية الحيوية الأخرى. والأخطر من ذلك كله، أنه ما دامت الحرب مستمرة، فإن خطر التصعيد النووي حقيقي، وإذا هُزمت القوات التقليدية الروسية، وهو ما تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه الآن، فقد تواجه روسيا أسلحة نووية تكتيكية، ويمكن أن يسقط الجانب الآخر طائرة أميركية أو روسية أثناء زحفها فوق البحر الأسود، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى صراع عسكري مباشر، وإن التقارير الإعلامية التي تفيد بأن الولايات المتحدة لديها قوات سرية على الأرض، وكشف المخابرات الأميركية أنها ساعدت أوكرانيا في قتل الجنرالات الروس وإغراق سفينة القيادة الروسية في البحر الأسود، يؤكد الخطر القائم.إن حقيقة التهديد النووي تعني أنه لا ينبغي للطرفين أبدا التخلي عن إمكانية إجراء مفاوضات، وهذا هو الدرس الأساسي لأزمة الصواريخ الكوبية، التي ستكمل 60 يوما من عمرها بحلول شهر أكتوبر من العام المقبل، وأنقذ الرئيس جون كينيدي العالم حينها من خلال التفاوض بشأن إنهاء الأزمة التي اختتمت بالموافقة على أن الولايات المتحدة لن تغزو كوبا مرة أخرى، وأن الولايات المتحدة ستسحب صواريخها من تركيا مقابل سحب الصواريخ السوفياتية من كوبا، ولم يكن ذلك استسلاما للابتزاز النووي السوفياتي؛ بل كان ذلك تصرفا حكيما من كينيدي ليتجنب معركة "هرمجدون".ولا يزال إحلال السلام في أوكرانيا ممكنا بناء على المعايير التي طرحت على الطاولة في نهاية شهر مارس: الحياد، والضمانات الأمنية، وإطار العمل لمعالجة شبه جزيرة القرم و"دونباس"، والانسحاب الروسي، ويبقى هذا هو المسار الواقعي والآمن الوحيد لأوكرانيا وروسيا والعالم، وسيحتشد العالم من أجل الانضمام إلى هذا المسار، وينبغي لأوكرانيا أن تفعل الشيء نفسه من أجل استمراريتها ورفاهيتها.* أستاذ جامعي في جامعة كولومبيا، ومدير مركز التنمية المستدامة بجامعة كولوميا، ورئيس شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة.* جيفري د. ساكس
Project Syndicate
حقيقة التهديد النووي تعني أنه لا ينبغي للطرفين أبداً التخلي عن إمكانية إجراء مفاوضات