تدور عجلة التطور السريع في هذه الحياة العملية بشكل مستمر، وفي ظل تطور التجارة وتحولها إلى تجارة إلكترونية ودولية عابرة للقارات، وما يصاحبه من تطور في الخدمات المرتبطة بها، والتحول إلى الحياة الإلكترونية السريعة في جميع مناحيها، نجد أنه من الطبيعي جدا ظهور وازدياد الخلافات وسوء الفهم والتعقيدات اليومية في العلاقات والتعاقدات التجارية. وحتى نواكب هذه التطورات، لابد من تطورات مماثلة على صعيد حل الخلافات والنزاعات، من خلال إيجاد طرق عملية سريعة عادلة وفعَّالة تسهم في حل النزاع، وتساعد على استمرار العلاقة التعاقدية.لا يتصور أبداً أن يكون حل النزاعات دائما عبر رفع القضايا ودخول المحاكم، وخاصة في الخلافات والنزاعات البسيطة جدا، لكن للأسف أصبح اللجوء للمحاكم عادة من عادات المجتمعات التجارية، ففي حال نشوء أي نزاع بين طرفين، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو رفع القضايا! وهو الذي يجب أن يكون آخر الحلول، فعندما تنحصر ثقافة المجتمع على فكرة التقاضي في المحاكم التقليدية، وعندما تسود حالة من النزاع الدائم على العلاقات التجارية، وينتشر مفهوم الخصومة بين أفراد المجتمع ومؤسساته، فإن ذلك يؤدي إلى وأد العقود وقتل الإنجاز وتفتيت الاتفاق، فأصل العقود استمرار العلاقات لا قطعها.
لذا من الأفضل أن يركن أفراد المجتمع إلى حل النزاعات بالتدرج، وأن يبادروا إلى حل النزاعات بطريقتهم الخاصة التي يفضلونها، فيبدأ الأطراف باستخدام الطرق الودية لحل النزاع، كالوساطة والتوفيق، ثم ينتقلون إلى الوسائل البديلة عن القضاء كالتحكيم، فأصحاب الشركات والمستثمرون - وخاصة المستثمر الأجنبي - لا يريدون وقف أعمالهم أو تجميد أموالهم أو بمجرد حدوث النزاع أو إثارته أمام القضاء.لذلك عكف الناس منذ القدم على إيجاد الحلول لمشاكلهم عن طريق آليات يضعونها تتلافى فيها سلبيات عرض النزاع على القضاء، ففي الكويت سابقا عرف ما يسمى بأهل السالفة أي «السابقة»، وهو نظام قضائي خاص يقوم فيه مجموعة من أصحاب الخبرات بالفصل في أي خلاف يقع بينهم معتمدين على الأعراف والسوابق القضائية. ومع تقدم الوقت والتطور تم تنظيم هذه العملية ووضعها وفق آليات محددة، وهي ما تسمى بالوسائل البديلة لحل المنازعات.إن الوسائل البديلة لتسوية المنازعات هي مجموعة من الآليات التي يلجأ إليها الأطراف عند نشوء خلاف بينهم، يتحاورون ويتباحثون، ليتوصلوا إلى حل أو نتيجة، سواء عن طرق الاستعانة بشخص من خارج النزاع (محكم)، أو بين أطراف النزاع فقط، فالقضاء يخرج من هذا التعريف باعتباره الوسيلة الأساسية لحل النزاع، لكن مع تزايد النزاعات التجارية والدولية أصبح لزاماً على التجار والمستثمرين إيجاد وسائل أخرى استثنائية أسرع وأبسط، حتى إن البعض قام بتسميتها الوسائل الأخرى لتسوية المنازعات، وليست البديلة، كدليل على أهميتها، وأنها أصبحت قريبة من الأصيلة.إن أكثر ما تتميز به هذه الوسائل هو مبدأ سلطان الإرادة، ويعني حرية إرادة الطرفين في اختيار الوسيط أو الموفق أو المحكم ليقوم بحل النزاع، كما لهم الحق في تحديد المكان والزمان لانعقاد الجلسات، وكذلك تحديد المدة المحددة لحل النزاع ولغته والقانون الواجب التطبيق، وغير ذلك من الإجراءات العملية التي يتم اختيارها من قبل الأطراف، فأساس اتفاق التحكيم هو توافر الإيجاب والقبول بين أطراف النزاع، أي أن يكون كل الأطراف متوافقين على هذا النوع من الحلول والتنازل عن اللجوء إلى القضاء، كما تتميز الوسائل البديلة لتسوية المنازعات ببساطة الإجراءات، إذ إنه من الممكن أن يتم إنهاء هذا الخلاف بأبسط الحوارات والتفاهمات وأبسط الأدوات، بل قد تنتهي بعض النزاعات التي تكون عبر الوسائل الإلكترونية الحديثة، حتى لو لم يجتمع الأطراف أو يرون بعضهم البعض مباشرة.فهذه الخصائص تميزت بها هذه الوسائل، مما يؤدي إلى إيجاد حلول إيجابية وإبداعية التي تنهي هذه الخلافات، إضافة إلى وجود مميزات عظيمة أخرى في الوسائل البديلة لتسوية المنازعات، أهمها سرعة إنهاء النزاع، والسرية الكاملة لهذه الخلافات، وقلة التكلفة المادية.ولا شك في أن ميزة السرعة في حل النزاع من أهم المزايا التي يفضلها التجار، فقد باتت السرعة اليوم هي العامل الرئيس في كل جوانب الحياة، حتى سُمي هذا العصر بعصر السرعة. فلا شك أن الجميع يعرف مدى بطء إجراءات المحاكم، بسبب كمية القضايا وعدم تفرع القضاة وقلة عددهم وغيرها، ومدى روتينية آجال الجلسات، فبعض القضايا قد تستمر لأكثر من خمس سنوات في أروقة المحاكم، تفلس الشركات أو يموت أحد أطراف الدعوى ولم تنتهِ القضية، وخصوصا في القضايا التجارية، حيث إن التأخير في حسم هذه الخلافات قد يؤثر على الوضع المالي للشركات، ويفوت عليهم الكثير من الفرص، إذ تعتمد الإدارة في الشركات والمستثمرين على عامل السرعة في إغلاق الصفقات وشراء الأسهم واستثمار براءات الاختراع وغيرها من المعاملات التجارية.لذلك نجد أن الوسائل البديلة لتسوية المنازعات توفر سرعة انتهاء وحسم الخلافات، فعملية الوساطة أو التوفيق أحيانا لا تتجاوز شهرا واحدا أو ثلاثة أشهر كحد أقصى. أما مدة قضايا التحكيم، فلا تتجاوز الستة أشهر وفق غالبية قوانين التحكيم في العالم، ومنها قانون المرافعات الكويتي رقم (38) لسنة 1980 في مادته (181)، وكذلك المادة (24) من نظام التوفيق والتحكيم في غرفة تجارة وصناعة الكويت، ما لم يتفق الأطراف على تمديد المدة لأخرى مماثلة.أما فيما يخص السرية، فأساس جلسات المحكمة هو العلنية، إذ يجب أن تكون الجلسة على مسمع ومرأى الجميع، ويكون لكل الأفراد الحق في حضورها، فهو مبدأ من مبادئ العدالة في المحكمة التقليدية، بعكس جلسات الوساطة والتوفيق والتحكيم فأساسها السرية. فكبار الشركات والمستثمرين والشركات العائلية دائما ما تفضل الحفاظ على سمعتها وعدم المساس بمركزها المالي والاقتصادي، وتخشى نشر بعض الخلافات للعلن، أو أن يتم الكشف عن سرية بعض التعاقدات التجارية والاتفاقات الخاصة بينهم، بل إن البعض يؤثر عدم رفع الدعاوى وخسارة أمواله المتنازع عليها، رغبة في عدم الكشف عن هذه الخلافات أمام المجتمع، وهذا ما يميز هذه الوسائل، إذ إن أساس الجلسات فيها يكون وفق مبدأ السرية.وعن تكلفة هذه الوسائل، يرى الغالبية أنها بسيطة في الوساطة والتوفيق. أما في التحكيم، فتعتمد على حجم المطالبة وتكاليفها التي قد تكون مرتفعة في بعض الأحيان، لكن عند التفكير بتمعن وإعمال أبرز المبادئ الاقتصادية نجد أنها مناسبة جدا، فبنظرة أخرى إذا مرض صاحب الدخل المتوسط، فإنه يتوجه إلى أبسط العيادات للعلاج، وقد يتأخر شفاؤه، أما صاحب الدخل العالي فإنه يتوجه لأغلى المصحات العالمية حتى يتعافى بشكل سريع، وهذا ما يطبقه أصحاب الشركات والمستثمرون، حيث إنهم ينظرون إلى مبلغ المطالبة وسعره السوقي اليوم، لأن الشركة المدعية لو لجأت للمحكمة فسوف تتأثر بشكل كبير، بسبب تأخر الإجراءات، وقد تتجمد الأموال وتفقد قيمتها السوقية، فدفع مبالغ كبيرة للتحكيم سيساهم في حل الخلاف بشكل سريع ويحافظ على قيمة الأموال واستمرارية العلاقة التعاقدية بين الأطراف.وفي النهاية، فإن الوضع الراهن في الكويت ما زال يحده الإطار القديم، والخوف من المضي قدماً تجاه هذا التطور الرائع الذي يواكب كل متطلبات الشركات والتجارة الدولية والإلكترونية. فنجد أن هناك ضعفا معرفيا وثقافيا في الوسائل البديلة لتسوية المنازعات والتحكيم بشكل خاص، إذ لا يزال المجتمع يجهل هذه الوسائل وهذه النظم الحديثة، ونجده يفكر كلياً بتخوف قبل استعمالها واللجوء لها.هذه الثقافة القانونية الخاصة بالوسائل البديلة لتسوية المنازعات تقع على عاتق الدولة والقانونيين وأصحاب الاختصاص بشكل رئيسي، لتوعية المجتمع وتعريفهم بهذا النظام الراقي الذي يمثل المستقبل الواعد لحل النزاعات بلا شك. كما يؤثر بشكل ملحوظ في كسب ثقة المستثمر الأجنبي والشركات الكبرى والمستثمرين وأصحاب الأعمال لتنشيط التجارة المحلية والدولية بشكل خاص.ولابد لدولة الكويت أن تواكب آخر الاتفاقيات الدولية الخاصة بالوسائل البديلة لتسوية المنازعات، كاتفاقية سنغافورة للوساطة التي لم تنضم لها الكويت إلى الآن.وختاماً، فإنه من الضروري أن يقوم المشرِّع الكويتي بتنظيم القواعد الخاصة بالوسائل البديلة لتسوية المنازعات، بموجب قانون خاص، وأهمها الوساطة والتوفيق، كما لابد من إعادة تنظيم أحكام التحكيم، ووضعها في قانون خاص ومنفصل عن النصوص الواردة في قانون المرافعات المدنية والتجارية، كما هو الحال في غالبية الدول المتقدمة.
محليات
الوسائل البديلة لتسوية المنازعات في الكويت
16-05-2022