فاجأت الانتخابات النيابية اللبنانية بنتائجها أكثر المتفائلين بحدوث تغيير لافت في المشهد السياسي، فكانت النتيجة أكبر من المتوقع بالنسبة لما حصده التغييريون من محور «17 تشرين/أكتوبر» على حساب معظم أحزاب السلطة ولا سيما تلك المتحالفة مع حزب الله في محور «الممانعة».فإضافة إلى ما كان متوقعاً من صعود نجم حزب «القوات اللبنانية» على أنقاض «التيار الوطني الحر» المتراجع شعبياً على الساحتين المسيحية والوطنية، ترك اعتكاف «الحريري» وابتعاده عن المشهد السياسي إرباكاً لدى الطائفة السنية ولدى المستندين الى أصواتها من الحلفاء، مما فتح مجالاً واسعاً للناقمين على أهل السلطة وأحزابها ليسحبوا البساط بـ17 نائباً منتخباً على الأقل من تحت أرجل عتاة الإقطاعية والزعامات التقليدية، ولا سيما أولئك المقربين من النظام السوري وحلفائه في الداخل اللبناني.
لوائح «التغيير» استطاعت أن تسقط بعض أمراء الطوائف ورؤساء الأحزاب وكبار المصرفيين، كما استطاعت أن تهدد- بفارق بعض الأصوات- عروش من بقي من أهل السلطة والأحزاب التقليدية والطائفية، وتمكنت من تسجيل خروق مدوّية في عقر دار حزب الله الذي ظن الكثيرون- وأنا منهم- أنه عصيّ على الاهتزاز انتخابياً بفعل الالتزام العقائدي لمناصريه وتفاعلهم إيجابياً مع خياراته السياسية والعسكرية وقربه من القاعدة الشعبية.صفحة الانتخابات طويت بمفاجآتها وحماسة المشاركة فيها ومتابعتها، والعين تتطلع بحذر الى مصير الاستحقاقات السياسية والدستورية التي ستليها وفي مقدمتها عدم وجود أكثرية مريحة تعيد انتخاب الرئيس «بري» لولاية جديدة في رئاسة المجلس النيابي، ومن ثم صعوبة اختيار رئيس حكومة سني يضمن حزب الله وحلفاؤه أداءه السياسي، ناهيك عن العراقيل الكثيرة والشائكة التي يمكن أن توضع أمام تشكيل الحكومة، ومن ثم- في حال تشكيلها- أمام بيانها الوزاري وتوجهاتها السياسية وخياراتها الاقتصادية وعلاقاتها مع المؤسسات المانحة والدول الغربية والخليج، وصولاً الى الاستحقاق الرئاسي الذي يتنافس فيه «سليمان فرنجية» المدعوم من حزب الله ومحوره الإقليمي والداخلي بمواجهة «سمير جعجع» الذي سيستند الى دعم عربي-أوروبي وسيتمسك بنظرية «المسيحي الأقوى» التي سبق أن أدخلت البلاد في فراغ لسنتين وانتهت برضوخ الجميع لطموحات وأحلام الرئيس الحالي بالوصول الى قصر «بعبدا» بأي أسلوب وثمن.لبنان يعيش نشوة انتصار التغيير، ولكنه يعيش أخطار التحذير الذي وجهه رئيس كتلة حزب الله النائب محمد رعد للنواب الذين لا يشاطرونه التوجه السياسي بقوله الحاسم لهم «نتقبلكم خصوماً في المجلس النيابي، ولكن لن نتقبلكم دروعاً للإسرائيلي ومن وراء الإسرائيلي... انتبهوا لخطابكم وسلوككم ومستقبل بلدكم... لا تكونوا وقوداً لحرب أهلية». فبين هبوط جنوني وسريع في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وبين «جهنم» الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي تحقق بغطاء من مقولة «ما خلّونا» لحزب العهد الحالي، وبفعل ما سبق من سياسات مغلوطة ومتراكمة، وبين عدم تقبل أقطاب السياسة التقليدية لطعم الهزيمة أمام الوجوه التغييرية الشابة وما سيسعون إليه من مخططات إفشال وإحباط وتعجيز، ومع توقع سيل التهم التقليدية بالعمالة والتخوين وما يستتبعها من نتائج ترتبط بخطورة هذه التهم وتبرير التصرف الحاسم والقاسي مع المتهمين بها، ينتظر لبنان أياماً قد تكون أقسى على شعبه مما عاناه في السنوات الأخيرة السابقة.الانتخابات النيابية الحالية ترسم وجه لبنان الجديد، وهي محطة تاريخية تشبه المحطات الكثيرة التي توقّف فيها قطار النظام اللبناني لتبديل محوره من سكة الى أخرى، وللأسف أثبت الواقع أن التحول السياسي والتغيير الدستوري لم يكن سلساً في يوم من الأيام، حيث لم يكن الانتقال من «الجمهورية الأولى» الى «الجمهورية الثانية» إلا على وقع حرب أهلية طاحنة، ولم تحكم الأغلبية المنتصرة في انتخابات عام 2005 على وقع اغتيال الرئيس «رفيق الحريري» إلا من خلال حكومة «وحدة وطنية» يتحكم في مصيرها «ثلث معطّل» ويعوق إقدامها تعطيل ممنهج لكل مؤسسات الدولة والحكم، كما لم يتح «للرئيس القوي» المؤيد بأكثرية مسيحية ونيابية أن يحكم بسلاسة، فعاش في عهده معاناة «الجهاد الكبر» بعد أن زفّ له الرئيس «نبيه بري» خبر فوزه بـ»الجهاد الأصغر» بإعلان انتخابه رئيساً رغماً عن كثير من خصومه وحلفاء حلفائه.الانتصار المدوّي والمفاجئ بحجمه لقوى التغيير، يفتح أبواب الأمل أمام شعب أوصلها إلى الندوة البرلمانية، ربما ليس قناعة ببعض شخصياتها وبعض طروحاتها، ولكن بالتأكيد انتقاماً من طبقة سياسية فاسدة ومتعجرفة نحرته في الحرب وسرقته في السلم، ولكن الواقعية تقتضي التروي في الاندفاع على سند من الاعتقاد الجازم بأن دروب التغيير المرحلي تصل بالصابرين والصادقين الى التبديل الجذري.طريق النواب الجدد من أهل «الثورة والتغيير» لن يكون ممهداً، فبانتظارهم كثير من العمل وغزير من الجهد، وفي مواجهتهم سيل من المناكفات وجرف من المؤمرات، سلاحهم الوحيد لمجابهة كل ذلك والصدق مع من آمن بهم، هو الصبر والتكتل ليصبحوا «بيضة القبان» في اللعبة الدستورية، وليضحوا العين الساهرة تشريعياً ورقابياً، وليمسوا المقاومين من داخل النظام لمخرز ائتلاف الفساد مع السلطة.* كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
الانتخابات النيابية اللبنانية... التغيير والتحذير
18-05-2022