عن الاغتراب البيئي... الاقتصاد الدائري الأخضر
التفكير الاعتيادي بأن المسائل المتعلقة بتلوث البيئة ومشاكلها هي في الواقع مشاكل منفصلة عن الواقع ولا تلامس حياة الشعوب والأمم، هو تفكير عفا عليه الزمان، والأخطر من هذا وذاك حين يأتي هذا التفكير من قيادات في الدولة لا تستطيع أن تميز بين الألف و(كوز الذرة) كما يتداول الإخوة في مصر، إذ إن مشاكل البيئة وحلولها أيضا متصلة وبشكل رئيس ومباشر باقتصادات الدول والصناعات الثقيلة، ومن الجانب الآخر أيضا متصلة بالطاقة وما ينجم عن إنتاجها من مشاكل وتلوث وهكذا، فالعلاقة بينها تكاد تكون علاقة جدلية وجب أن يجد المرء المعادلة المتزنة لها. ومن هذه المنطلقات مجتمعة نرى أن التفكير في دول العالم الأول دائماً يكون متزنا في مسائل البيئة والاقتصاد والطاقة على حد سواء، حتى وُلد مفهوم ليس بقديم وهو مفهوم «الاقتصاد الدائري» الذي أصبح الآن محور ارتكاز الأعمال البحثية، ورافداً للمعاهد والجامعات في تمويل أبحاثها، كذلك لما فيه من مفاهيم تلامس واقع كل بلد بشكل أساسي. يقوم مفهوم الاقتصاد الدائري على أسس متينة متصلة بدورة حياة إنتاج النفايات وإدارتها بشكل رئيس، ويناهض كذلك ذاك المفهوم الكلاسيكي «للاقتصاد الخطي» ويعمل على انتفائه شيئا فشيئاً، أما فيما يخص النمط التقليدي للاقتصاد الخطي فهو ذاك الذي يبدأ من استخلاص الموارد مرورا بالإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وينتهي بنقطة إنتاج النفايات ومحاولة معالجتها، ويقف عند هذه النقطة، وهو المفهوم الذي ساد (وها هو يوصف بالباد) إلى نهاية الثمانينيات بطريقة أو بأخرى، ويؤدي إلى تراكم النفايات ومشاكل متعلقة بشكل أو بآخر بالملوثات الناجمة عن العمليات المتصلة في خط سير ذاك النمط التقليدي من الحسابات «الاقتصاد-هندسية».
وتكون النظرة شمولية إزاء الاقتصاد الدائري وبشكل متصل بالبدايات والنهايات، يؤدي إلى تشكيل (دائرة) لها بداية ونهاية مع كل خطوة وعملية بدء بالاستثمار في البنى التحتية المناسبة، وتطوير الأسواق المناسبة لتسويق السلع (الخضراء) الناجمة عن العمليات الصديقة للبيئة وتطوير مواصفات أفضل بيئيا وتقنيا مروراً بتقنين وتقليل إنتاج النفايات من خلال دراسة دورات حياتها وصولا إلى تطوير أفضل سبل المعالجة لها، وكل هذا حتى نصل إلى نقطة الانطلاق مرة أخرى، وهي استخدام البنى التحتية المناسبة لهذا كله، فتكون النظرة الاقتصادية هنا شاملة النظرة الاقتصادية المتكاملة والبيئية والتقنية المثلى على شكل حلقة دائرية يكمل كل جزء منها الآخر. بدأ العمل بشكل رسمي من خلال تطبيق 54 بنداً من خطة عمل شاملة في الاتحاد الأوروبي في ديسمبر من عام 2015، وذلك تحقيقا لمفهوم الاقتصاد الدائري بين دول الاتحاد وصولا إلى هذه السنة، حيث تم اعتماد عدد من البنود والتوصيات من الشركات والصناعات الثقيلة في أوروبا تباعا من خلال تحقيق نتائج ملموسة عديدة، ولعل من المفيد أن نستذكر أهم الأخبار الناجمة عن الاتحاد الأوروبي في أبريل من هذا العام، والتي أكدت منافع تطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري من خلال توفير الأموال الطائلة، وتخفيف الضغط على الميزانيات من خلال العمل على تقليل الاعتماد على المواد البكر والخام، وكذلك تخفيف الانبعاثات الناجمة عن هذا كله والتي تشكل قرابة 45% من مجمل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، طبعا ناهيك أن تطبيق هذا المفهوم يؤدي إلى خلق أكثر من سبعين ألف فرصة عمل على المدى القريب في الصناعات المختلفة وزيادة الناتج القومي الأوروبي بـ0.5%. فشلنا كمنظومة مجلس تعاون في تحقيق ترابط حقيقي فيما بيننا على كل الصعد، هذا إذا ما استثنينا دخول الدول بالبطاقة المدنية، فلعل الاقتصاد الدائري الأخضر يكون الملاذ والنقطة الحقيقية لنا جميعا في تحقيق مستقبل بيئي واعد واقتصاد متين يقوم على تعاون أممي فيما بيننا.