منذ عشرين سنة، أعطت بلدة فرنسية شمالية، في جنوب مدينة «ليل»، 25 في المئة من أصوات سكانها للمرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان خلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في عام 2002، فحلّ زعيم اليمين المتطرف، جان ماري لوبان، حينها في المرتبة الثانية بنسبة 16 في المئة، وصُدِمت فرنسا في تلك السنة بوصول لوبان إلى الجولة الثانية من التصويت لمنافسة الرئيس جاك شيراك من حزب «التجمع من أجل الجمهورية»، فحشد المعسكر اليساري قواه لدعم شيراك ومنع لوبان من الوصول إلى السلطة، فعلى المستوى الوطني، حصد شيراك 82 في المئة من الأصوات مقابل 18 في المئة لصالح لوبان، واتخذت منطقة «بروي لا بويسيير» المسار نفسه وأعطت شيراك 79 في المئة من أصواتها مقابل 21 في المئة للوبان، وفي عام 2012، خسرت ابنة جان ماري، مارين لوبان، في «بروي لا بويسيير» خلال الجولة الأولى أمام الاشتراكي فرانسوا هولاند، فحصدت 27 في المئة من الأصوات مقابل 35 في المئة لمنافِسها، ثم هزم هولاند الرئيس نيكولا ساركوزي اليميني الوسطي خلال الجولة الثانية في تلك المنطقة (بنسبة 66 في المئة مقابل 34 في المئة)، وكانت نتيجته هناك أعلى بكثير من نسبته الوطنية الإجمالية التي سمحت له بهزم منافسه (51.6 في المئة).يتماشى تأييد «بروي لا بويسيير» التقليدي لليسار مع نمط السياسة الفرنسية المألوف في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد سعت المناطق الصناعية إلى حماية العمال حين كانت الصناعة قوية وحاولت نيل المساعدة من الحكومة عندما تراجعت الأعمال، لكن على مر السنوات العشرين التي تلت فوز شيراك الكبير على جان ماري لوبان، حصل تغيّر بارز في «بروي لا بويسيير» وفرنسا ككل، فخلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية هذه السنة، حصدت مارين لوبان 52 في المئة من الأصوات رغم تنافسها مع 11 مرشّحاً آخر، وحلّ الرئيس إيمانويل ماكرون في المرتبة الثانية بنسبة 18 في المئة هناك، وحصد جان لوك ميلنشون 16 في المئة من الأصوات، وفاز ماكرون بولاية رئاسية ثانية وهزم لوبان على المستوى الوطني (58 في المئة مقابل 42 في المئة) خلال الجولة الثانية من الانتخابات، لكن لوبان حصدت في هذه المنطقة 69 في المئة من الأصوات.
نَسَب محللون كثيرون تفوّق لوبان في هذا النوع من المناطق إلى تحسّن صورتها في الفترة الأخيرة وتشديدها على مسائل مثل التضخم بدل الهجرة والانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وقد يكون هذا التحليل صحيحاً جزئياً، لكنه يغفل عن الشعبية التي يحظى بها موقفها من الهجرة حتى الآن. اتخذ ماكرون من جهته موقفاً أقرب إلى معسكر اليمين في مواضيع الهجرة والإسلام لمنع لوبان من احتكار الدعم الشعبي في هذين الملفَين، لكن جدّدت لوبان صورتها وطرحت نفسها كسياسية مرموقة تحاول طرد شبح معاداة السامية الذي طَبَع حزبها حين كان والدها يترأسه، فقادت لوبان جهوداً ناجحة لإخراجه من الحزب في عام 2015 بعدما أصرّ على اعتبار محرقة اليهود مجرّد «تفصيل» بسيط في الحرب العالمية الثانية ودافع عن النازي فيليب بيتان. قد تفسّر هذه الحملة جزءاً من أسباب التحول الجذري في المناطق الصناعية السابقة في شمال فرنسا، حيث يدعم الناخبون اليوم حزب «التجمع الوطني» برئاسة لوبان بعدما كانوا من أشرس مؤيدي الحزب الاشتراكي.خلال جولة في «بروي لا بويسيير» بعد يومَين من يوم الانتخابات، بدا المواطنون العاديون للوهلة الأولى مرتبكين إزاء التغيّر الحاصل في التوجهات السياسية داخل بلدتهم وانتقال الكثيرين من دعم اليسار إلى اليمين. قالت امرأة رفضت الإفصاح عن اسمها إنها تفاجأت بخيارات جيرانها، هي امرأة متقاعدة عمرها 74 عاماً وقد صوّتت لماكرون خلال الجولتَين، وحين سُئلت عن سبب دعم المنطقة للوبان، أجابت قائلة: «لا أفهم شيئاً. كانت هذه المنطقة تصوّت لليسار سابقاً، لكنها انتقلت الآن إلى اليمين المتطرف، لا أفهم ما حصل». كانت الأسباب التي دفعتها إلى انتخاب ماكرون مألوفة، فهو شخص ذكي برأيها، وهي تحبذ طريقة تعامله مع الشؤون الخارجية وتعتبر لوبان أقرب إلى روسيا، لكنها تعجز عن تفسير تغيّر مواقف جيرانها.في المقابل يقول جان، وهو رجل متقاعد من سكان «بروي لا بويسيير»، عمره 65 عاماً، إنه كان يصوّت في الماضي لصالح اليسار لكنه بدأ يؤيد لوبان وحزب «التجمع الوطني» في آخر سنتين، وحين سُئِل عن سبب انتقاله من دعم الاشتراكيين إلى «التجمع الوطني»، قال إن الوعود التي أطلقها السياسيون السابقون لم تتحقق وأضاف أن مارين لوبان تختلف عن والدها، فكان خطاب جان ماري لوبان حول الأجانب في الماضي يقتصر على دعوتهم للرحيل، لكنّ مارين مختلفة برأيه، وفي الفترة الأخيرة، لم يطلق ماكرون إلا وعوداً فارغة، لا سيما في المواضيع التي تهمّ المتقاعدين (تشمل أبرز اقتراحات الرئيس إصلاح المعاشات التقاعدية ورفع سن التقاعد)، لكن جان يُعبّر عن سروره بعودة ماكرون إلى السلطة، رغم تصويته لصالح لوبان، بسبب الوضع الراهن في أوكرانيا.في ما يخص الوضع الاقتصادي، لام جان الضرائب المرتفعة في فرنسا على غياب الخيارات الاقتصادية لاستبدال مناجم الفحم. هو يتساءل: «بعد زوال المناجم، أين سيعمل الشبان؟ أعترف صراحةً بأن الشباب في هذه المنطقة لا يعملون كثيراً... لديّ أربعة أبناء هنا، وأستطيع التأكيد على توسّع ظاهرة تهريب المخدرات، وإذا لم يجد الشباب فرص عمل، فسيحتاجون إلى المال».في المحصلة، بدأت فرنسا التي تشهد تراجعاً اقتصادياً واضحاً تزداد ميلاً إلى معسكر اليمين سياسياً بعدما خذلتها المعسكرات اليسارية واليمينية التقليدية. إذا كان الدعم الذي تحظى به لوبان ينجم بشكلٍ أساسي عن فشل حكومة هولاند الاشتراكية في تحسين الوضع المحلي، قد تقع مارين لوبان في الفخ نفسه إذا وصلت إلى السلطة يوماً، فحتى الآن، تُعتبر هذه المرأة بديلاً إيجابياً عن مؤسسة فشلت في مجالات تحتاج إلى التطوير.أصبحت لوبان قوة بارزة في الساحة السياسية الفرنسية، ولا يمكن قول الأمر نفسه عن جميع الشخصيات الأخرى في معسكر اليمين السياسي، وعلى عكس الاحترام الذي اكتسبته لوبان فجأةً، فشل إريك زمور، الصحافي الذي حاول التفوق عليها في المعسكر اليميني، في حصد تأييد الناس حين ترشّح للرئاسة، مع أن الاستطلاعات الأولية كشفت أنه يستطيع منافستها، وكانت ابنة شقيقة لوبان، ماريون ماريشال، قد انشقت عن حزب «التجمع الوطني» ودعمت زمور، ومع ذلك خَفَت نجم هذا الأخير سريعاً وحصد 3.65 في المئة من الأصوات فقط خلال الجولة الأولى في منطقة «بروي لا بويسيير».لم تجد نظريات زمور حول الحملة الكبرى لاستبدال الأوروبيين البيض أي بيئة حاضنة وسط الناخبين الفرنسيين المحرومين من حق التصويت، أقلّه في أماكن مثل «بروي لا بويسيير» التي يطغى عليها أصحاب البشرة البيضاء، وحين سُئِل المواطن جان إيف، الذي يدعم لوبان منذ فترة طويلة في مدينة «بيثون»، عن تأثير سياسات الهجرة على خياره الانتخابي، أجاب قائلاً: «يجب أن نعيش معاً اليوم، ويجب ألا ننسى أن المهاجرين ليسوا سيئين جميعاً. يعيش البولنديون والإيطاليون هنا منذ فترة طويلة، لكننا كنا نعتنق الدين نفسه، أما اليوم فيحمل المهاجرون ديناً مختلفاً». يقول إيف إن جزءاً من العملاء الذين يقصدون متجر التبغ الذي يملكه يصومون خلال شهر رمضان، وهو يناقش هذا الموضوع وسواه معهم.ترافق صعود لوبان مع مواقف كثيرة حول التهديدات المطروحة على الديموقراطية في فرنسا، ويبدو البعض في معسكر اليمين مقتنعاً بأن لوبان تتعرض لمؤامرة كبرى لإبقائها خارج السلطة، ويخاف البعض الآخر في معسكر اليسار من الشعبويين اليمينيين باعتبارهم أداةً لإضعاف الديموقراطية، لكن جزءا كبيرا من داعمي لوبان صوتوا في نهاية المطاف لسياسي قادر على معالجة مخاوفهم، وتبقى الكلمة الأخيرة للرأي العام الفرنسي، وهذا هو هدف الديموقراطية.اقتصرت نسبة ناخبي الرئيس الفرنسي الحالي خلال الجولة الأولى على 28 في المئة، مما يثبت أن معظم الشعب يبحث عن التغيير، ثم حصدت لوبان 42 في المئة من أصوات الفرنسيين الذين يعتبرونها أفضل من ماكرون: إنها زيادة كبيرة مقارنةً بنتائج عام 2017، حيث حصدت دعم 34 في المئة من الناخبين، وكان والدها قد كسب 18 في المئة من الأصوات فقط خلال الجولة الثانية في عام 2002، وعلى صعيد آخر، لا يمكن اعتبار نجاح لوبان مفبركاً، فقد تفوّقت على المرشح اليساري جان لوك ميلنشون بفارق 1 في المئة تقريباً خلال الجولة الأولى من انتخابات هذه السنة.كان شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، ينحدر من مدينة «ليل» المجاورة، وتحررت منطقتا «بروي لا بويسيير» و«بيثون» من النازيين في سبتمبر 1944، وتحمل ساحات ولوحات عدة حتى الآن تواريخ التحرير في كل بلدة منهما، ولا يزال إرث فرنسا الحرة الذي تركه ديغول قوياً، ويستطيع الناخبون الفرنسيون أن يقرروا مستقبلهم بأنفسهم، لكن تلوح مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية كثيرة في الأفق، فقد زار ماكرون عدداً من مناطق التعدين السابقة في شمال فرنسا خلال حملته الانتخابية، لكن إذا أراد أن يكون رئيس فرنسا كلها، كما قال في خطاب النصر، فمن الأفضل أن يتابع البحث عن حلول للتدهور المستمر في أماكن مثل «بروي لا بويسيير» و«بيثون»، وإلا لا مفر من أن تتابع نسبة تأييد لوبان ارتفاعها في هذه المناطق وسواها إلى أن تبلغ عتبة لم تكن لتصل إليها يوماً.* سامويل سويني – سيتي جورنال
دوليات
تحوّل كبير في توجّهات الرأي العام الفرنسي
20-05-2022