مستقبل أوروبا بين حلف «الناتو» و«المجموعة السياسية الأوروبية»
خلال خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اختتام مؤتمر مستقبل أوروبا المنعقد في 9 مايو 2022 بمدينة ستراسبورغ، دعا إلى إنشاء «مجموعة سياسية أوروبية» تسمح بانضمام أوكرانيا إليها، في وقت أن قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي قد يتطلب- وفق تعبير الرئيس ماكرون- آلية معقدة قد تستمر«عقودا طويلة». لا شك أن هذا المقترح جدير بالتوقف عنده، ليس لأنه يأتي على لسان رئيس متحمس اطمأن حديثاً على توليه ولاية رئاسية ثانية مما يسمح له بشجاعة الطرح وحرية العمل، بل لأنه سيتوازى من جهة مع مراجعة حتمية للمعاهدات المرتبطة بالاتحاد الأوروبي مع ما يشكله ذلك من أهمية وحساسية، ومن جهة أخرى لأن المجموعة السياسية المقترحة في حال المضي في تكوينها ستتشكل على أنقاض هيبة حلف شمال الأطلسي التي اهتزت في خضم الصراع الروسي-الأوروبي المتأجج على الأراضي الأوكرانية، وبخاصة أن الرئيس الفرنسي يروج للفكرة على سند من أن المنظمة الأوروبية الجديدة ستسمح للأمم الأوروبية الديموقراطية «بإيجاد مساحة جديدة للتعاون السياسي والأمني».المتعمّق في تحليل الطرح، والمراقب لما شهدته الساحة الأوروبية من تردد وما أظهره حلف شمال الأطلسي من ارتباك قبيل الاجتياح الروسي لأوكرانيا وأثناءه، يجد أن المقترح يحمل في طياته كثيراً من المهادنة لروسيا التي طالب ماكرون ببناء السلام معها دون «إذلالها»، مؤكداً أنه «عندما يعود السلام الى التراب الأوروبي، سيتعين بناء توازنات أمنية جديدة» من دون «الاستسلام أبدا للإغراء أو الإذلال، ولا لروح الانتقام لأنها أمعنت في تدمير طرق السلام في الماضي»، ويقصد بذلك طريقة تعامل الدول المنتصرة مع ألمانيا المنهزمة في الحرب العالمية الثانية.
فبالواقعية السياسة التي يتبناها الرئيس الشاب، لم يعد أمام الدول الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها أوكرانيا التي استفزت روسيا بجرأتها على الهرولة غرباً، سوى الولوج الى «الجنة الأوروبية» من باب خلفي تمثله المنظمة السياسية المقترحة، والى أن يتم ذلك فعلى الأوروبيين- بحسب قول الرئيس الفرنسي- أن «يفعلوا كل شيء حتى تتمكن أوكرانيا من الصمود الذي يمنع روسيا من الانتصار أبداً»، وذلك مع «الحفاظ على السلام في بقية القارة الأوروبية وتجنب أي تصعيد».سواء أتحقق المقترح أم لم يتحقق، فلا بد من ربطه بتصريح رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين» التي أعلنت أن القارة الأوروبية «تواجه ظلال الماضي الذي اعتقدنا أننا تركناه خلفنا»، بما يؤكد أن الأوروبيين بدأوا يشعرون باختلال التوازنات التي صيغت في مؤتمر فرساي عقب الحرب العالمية الثانية، وذلك نتيجة عدة عوامل جيو-سياسية واقتصادية مرتبطة بتوسع الاتحاد الأوروبي بشكل وحجم لا يمكن معهما الاستيعاب الكامل لمجموع الفروقات العرقية، والقيمية، والعقائدية، والاقتصادية والاجتماعية واختلاف التوجهات السياسية والمقومات العسكرية بين دولة وأخرى. وفي هذا الإطار، لا نعتقد أن هناك مبالغة باستذكار موقف الدول الأوروبية السلبي من أزمة إيطاليا الصحية التي اجتاحتها جائحة كورونا بشكل لافت وخطير دون أن تجد من يمدها بالأسرة وأدوات الوقاية من جيرانها وإخوانها الأوروبيين، مما فضح فكرة التضامن الأوروبي وهشّم أواصرها، كما لا نجد بداً من تلمّس المماطلة وعدم الوضوح الذي لاقته أوكرانيا من حلف شمال الأطلسي «الناتو» في مواجهة التهديد، ومن ثم الاحتلال الروسي لأراضيها، حيث وقف الدعم العسكري للحلف على أعتاب المصالح الاقتصادية والنفطية للدول الأعضاء، كما تعطّل الحضور العسكري المباشر على وقع الخلافات الأوروبية-الأوروبية من جهة وانعدام الثقة الأوروبية-الأميركية من جهة أخرى.فرغم ما أبداه حلف الناتو في القرن الماضي من حضور قوي على صعيد التوازنات الدولية- لا سيما بمجابهة حلف «وارسو» الذي لم يجد لنفسه مستقبلاً مع انهيار جدار برلين- بدا حلف شمال الأطلسي ضعيفاً ومربكاً في الأزمة الروسية–الأوكرانية، مما قد ينبئ بخطورة مستقبله ولا سيما مع وجود نزعة أوروبية متزايدة نحو القومية المرتبطة بشكل أو بآخر بارتفاع موجة الرفض للهيمنة الأميركية على القرار العالمي والأوروبي ضمناً. لم يكن تاريخ حلف الناتو في مواجهة حلف وارسو على المستوى نفسه والوتيرة ذاتها، إذ تأرجح بين الحماسة والقوة تارة والعقلانية والمسالمة طوراً آخر. ففي بدايات صراع الحلفين تأثرت المشاركة الفاعلة– المباشرة وغير المباشرة- لحلف الناتو في حروب ونزاعات العالم بمبدأ «أيزنهاور» الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي في خطبة ألقاها ضمن «رسالة خاصة إلى الكونغرس حول الوضع في الشرق الأوسط»، حيث «بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية الأميركية أو العون من القوات المسلحة الأميركية إذا ما تعرضت للتهديد من دولة أخرى» في إشارة إلى الاتحاد السوفياتي والدول التي تدور في فلكه، وهذا ما يرتبط عضوياً بمبدأ «الردع» المرتكز على حق حلف الناتو بالرد النووي في حال تورط السوفيات بأي اعتداء نووي، الأمر الذي حبس معه العالم أنفاسه في أزمة الصواريخ الكوبية التي انتهت- لحسن الحظ- بتجنب الزعيم السوفياتي «نيكيتا خروتشوف» والرئيس الأميركي «جون كينيدي» دخول حرب نووية قد تدمر العالم بأسره.ووفقاً لهذه السياسة، كان مبدأ «الردع» في صراع الجبابرة هو العامل الرئيس في تأجيج وحسم النزاعات المسلحة التي اجتاحت العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، ومن ذلك الحروب العربية- الإسرائلية وفي مقدمتها العدوان الثلاثي على مصر عام (1956)، حرب فيتنام (1953-1975)، حرب اليمن (1962-1970)، حرب الرمال المغربية-الجزائرية (1963)، الحرب البوليفية (1966-1967)، الحرب الكونغولية (1960-1965)، حرب تشاد الأهلية (1965-1979)... إلخ. ومع نضوج التجربة الدولية، والقياس المتبادل لحجم القوى، سعى مستشار ألمانيا الغربية «ويلي برانت» لبناء الاستقرار الأوروبي من خلال توثيق العلاقات بين أوروبا الشرقية والغربية، كما تبنى الرئيس الأميركي «جون كينيدي» مبدأ «الرد المرن» في صراع الشرق مع الغرب، في حين أوصى تقرير بعنوان «المهام المستقبلية للحلف» قدمه وزير الخارجية البلجيكي «بيير هارمل» عام 1967 إلى مجلس حلف شمال الأطلسي بأن يكون للأخير مسار استراتيجي سياسي يعزز التهدئة بين الحلفين المتصارعين، وأن يسعى الناتو لإيجاد الحل لا إيجاد توازن الرعب على الساحة الأوروبية.ففي ظل سياسة التهدئة المستحدثة- والمستغنى عنها في بعض المناطق الجغرافية الغنية بالثروات الطبيعية والنفط المليئة والمليئة بالمصالح الغربية كإفريقيا وأفغانستان والعراق- ومع تنامي أولوية المصالح الوطنية على حساب التحالفات العسكرية وسياسات الحروب المدمرة، يمكن أن نفهم دعوة الرئيس الفرنسي للالتفاف على الصراع الروسي-الغربي من خلال الدعوة لتأسيس «المجموعة السياسية الأوروبية» التي برأينا ستبقى دعوة «رومانسية» غير قابلة للتحقيق طالما بقيت أوروبا «عجوزاً» وما دام «الكوي بوي» الأميركي شاهراً مسدسه، معتزاً بقوة شبابه، ومركزاً بصره على مصالحه في أوروبا والعالم.وللقول بقية مع تسارع الأحداث وانغماس «الدب الروسي» في الوحول الأوكرانية.* كاتب ومستشار قانوني.