لا تصدقوا أوهام روسيا حول نصرها الأبدي
وقعت معظم التعليقات الغربية حول الحرب الروسية ضد أوكرانيا في فخ النقد الشائب أو الانحياز الفائق، فغالباً ما توضع هذه المقاربة في خانة «الواقعية» لكنها لا ترتبط فعلياً بالنظريات الأكاديمية حول العلاقات الدولية، وفي ظل استمرار الغزو الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حان الوقت لتحديد أفضل نهج نقدي للحرب الروسية ضد أوكرانيا.تخوض أوكرانيا حرباً جديدة لحماية استقلالها، وقد يُحدد هذا الصراع معالم البلد وهويته طوال أجيال، ويضطلع الأوكرانيون بأهم دور في هذه المعركة،فلهذا السبب، تقضي أفضل مقاربة بمتابعة تحليلات الصحافيين والسياسيين والأكاديميين الأوكرانيين وجميع المعلّقين على مسار الحرب وتضخيم أصواتهم ومساهماتهم، ويجب ألا يفترض أحد أن الأوكرانيين غير جديرين بالثقة لأنهم منحازون لبلدهم أو يكررون شعارات حملتهم الدعائية الخاصة باعتبارهم طرفاً في الصراع.
الأوكرانيون ليسوا مجرّد ضحايا جامدين لعدوان بوتين، وهم لا يسعون إلى إثارة شفقة الغرب، بل يريدون أن يقتنع الآخرون بأنهم يتقاسمون قضية مشتركة مع المعسكر الغربي، لذا يُفترض أن يضطلع الغرب بدوره المناسب بدل الاستفادة من الجهود الأوكرانية بكل بساطة.على الجانب الروسي، تعتبر روسيا نفسها قوة اقتصادية وعسكرية كبرى، وهي مهووسة بتاريخها المجيد وتقنع نفسها دوماً بأن هزيمتها في ساحة المعركة مستحيلة، ويكرر المحللون الغربيون هذه الأفكار في مناسبات عدة، لا سيما في معسكر اليسار المتطرف، لكن تبقى هذه النقاط جزءاً من الحملة الدعائية الروسية ويُفترض أن نتعامل معها على هذا الأساس.على صعيد آخر، تسود مخاوف كبرى من أسلحة روسيا النووية واحتمال استعمالها في أي لحظة، فيقال مثلاً إن بوتين رجل مجنون وقد يتخذ هذا القرار بغض النظر عن مخاطر الرد الغربي المرتقب، لكن تهدف هذه الأفكار بكل بساطة إلى نشر الخوف على أوسع نطاق وذلك لما يلي: أولاً، لا تُستعمَل أسلحة نووية تكتيكية في هذه الحرب نظراً إلى غياب أي أهداف تكتيكية مناسبة مثل قوافل الدبابات أو حاملات الطائرات التي تستطيع روسيا مهاجمتها بهذه الطريقة. ثانياً، قد يكون بوتين مجنوناً فعلاً لكنّ جنونه يبقى منطقياً على نحو غريب، فلا يُشغّله إلا في ظروف محددة، حتى أن تصرفاته وتصريحاته توحي بأنه ليس مجنوناً بل دكتاتوراً بدأ يتقدم في السن: هو يخاف من جائحة كورونا، ويهتم كثيراً باستمرار سلطته وصمود نظامه، وفي مطلق الأحوال، يبقى التعامل مع مخاطر أي هزيمة عسكرية قد يتكبدها بوتين في أوكرانيا أسهل من مواجهة رد نووي غربي.في ما يخص دور الغرب الجماعي، يعتبر البعض أن التحركات الغربية التي يطلقها الائتلاف الدولي المؤيد لأوكرانيا والمعادي لروسيا استفزازية أو مصدر تهديد على السلام مع روسيا، فيظن هذا المعسكر أن توسّع حلف الناتو باتجاه شرق أوروبا هو الذي استفز روسيا ودفعها إلى غزو أوكرانيا، ولم يصدر القرار بتزويد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة في معظم الحالات إلا بعد فبركة أخبار كثيرة.لكن لا يمكن اعتبار الغرب طرفاً حيادياً لأي سبب، فقد أطلقت روسيا عدواناً وحشياً ومن مصلحة الغرب أن يهزمها، وهو يلتزم أيضاً بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ بكل وضوح على الحق الفردي أو الجماعي بالدفاع عن النفس إذا وقع أي هجوم مسلّح ضد أحد أعضاء الأمم المتحدة، إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة للحفاظ على الأمن والسلام الدولي.الدول الغربية ليست حيادية إذاً، ويبقى الغرب طرفاً «غير محارِب»، حتى الآن على الأقل، فقد استُعمِل هذا المصطلح خلال الحرب العالمية الثانية للإشارة إلى الدولة التي لم تشارك في القتال لكنها دعمت صراحةً أحد الأطراف المتحاربة، وكانت الولايات المتحدة قبل هجوم «بيرل هاربر» أفضل مثال على الامتناع عن المحاربة، مع أنها فرضت حظراً نفطياً على اليابان بسبب عدوانها في الصين ودعمت الجهود الحربية البريطانية والسوفياتية بقوة، وبذلك تثبت التجربة الأميركية أن الجهة غير المحارِبة قد تصبح عدائية حين تتبدّل الظروف.باختصار، يجب أن يستعمل الجميع مهاراته النقدية والأخلاقية عند التطرق إلى الحرب الروسية ضد أوكرانيا، إذ يُفترض أن نعتاد جميعاً على انتقاد مصادر المعلومات ونثق بالأصوات التي أطلقت توقعات دقيقة في الماضي، لكن من الأفضل أن نصغي في المقام الأول إلى من يحاربون هذا الغزو ويتأثرون به، أي الشعب الأوكراني.* مارت كولدكيب