هل تصبح روسيا دولة قومية حقيقية؟
فاز الغرب في حرب أوكرانيا، وفشلت محاولات روسيا احتواء أوكرانيا، وواجه جيشها اختباراً شائكاً وانكشفت نقاط ضعفه للعلن، وفي المقابل، أثبت الشعب الأوكراني بكل وضوح أنه غير مستعد للتنازل عن حريته، وتوحّد الأوروبيون حول سياسة مشتركة لدعم أوكرانيا، فأثبتوا استعدادهم لدفع الثمن اقتصادياً ورفضهم إضعاف حرية أي دولة مجاورة، وتدخّل الأميركيون بدورهم وقدّموا مساعدات عسكرية حاسمة.حان الوقت الآن لعقد السلام من موقع قوة، حيث يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحكّام روسيا عموماً حقيقة الوضع القائم، فهم لا يحبذون ما يحصل ويريدون الخروج من الوضع الكارثي الناجم عن تحركاتهم المتهورة، لكنهم يرفضون الإقدام على هذه الخطوة كقوة مُهانة.تواجه روسيا اليوم الوضع الذي عاشته بريطانيا وفرنسا في عام 1960، وحان الوقت كي تتقبل موسكو الواقع بدل التمسك بالأفكار التي تفضّلها، فلم يتحقق الكثير منذ عام 1991، فقد بقيت البنية الاقتصادية الأساسية والنموذج السياسي على حالهما في روسيا، رغم اختلاف الشعارات، مما يعني أن البلد يتكل حتى الآن على اقتصاد مُوجّه وحُكم استبدادي، كذلك، يتمسك الشعب الروسي (بعد عمر الثلاثين على الأقل) بالعقلية نفسها، وتمكن الرئيسان بوريس يلتسن وفلاديمير بوتين من تجاهل هذا الواقع لفترة طويلة، لكن جاءت الحرب في أوكرانيا لتكشف الحقائق بأكثر الطرق وحشية.
لا يمكن تطبيق أي إصلاحات حقيقية إلا إذا تحوّلت روسيا من إمبراطورية إلى دولة قومية، إنها عملية مؤلمة لأنها تترافق مع فقدان امتيازات كثيرة، لكنها تفتح المجال أمام تحسين مستوى معيشة الشعب الروسي وتمنح قادة البلد إرثاً مشابهاً لما حصل عليه الروس العظماء على مر قرون عدة.لكنّ العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الهدف كبيرة، فداخل الاتحاد الروسي، تطمح جمهوريات عدة للانفصال عن البلد، وتقتصر نسبة الناس من أصل روسي حقيقي على 81% من 145 مليون نسمة، ويشكّل هذا الانتماء الفلسفة الأساسية لروسيا والكنيسة الأرثوذكسية، مما يُصعّب التصالح مع الوقائع الميدانية، وتنظر الدول المجاورة إلى البلد وكأنه نسخة من الإمبراطورية الروسية أو السوفياتية السابقة، مما يعني أنه يتمسك بأسلوب عدائي ويطلق جميع أنواع التهديدات ويبقى منفصلاً عن الواقع.لكن إذا نجحت هذه المساعي، فقد تصبح روسيا دولة قومية تعيش بسلام مع نفسها ومع جيرانها، فتنضم حينها إلى المحور الأوروبي، وهو هدف سعى إليه عدد من القياصرة السابقين لكن من دون جدوى، وستحصل روسيا في هذه الحالة على منافع هائلة، إذ لا يسمح لها هذا الوضع بتخفيض نفقاتها الدفاعية فحسب، بل يعيد توزيع الأموال على أكثر المناطق فقراً في البلد ويثنيها عن المطالبة بالانفصال عنه. لكن نظراً إلى الشكوك المتبادلة بين الأطراف المعنية، لا يمكن بلوغ تلك المرحلة قبل وقتٍ طويل، ومن المتوقع أن تُصِرّ روسيا وأوروبا على التمسك بقدراتهما الدفاعية لمنع الطرف الآخر من اتخاذ خطوات «محفوفة بالمخاطر»، فمن وجهة نظر أوروبا، يبقى الوجود العسكري الأميركي المستمر ضرورياً، إلى أن يصبح الدفاع الأوروبي جديراً بالثقة على الأقل، وقد لا يحصل ذلك قبل مرور عقد من الزمن أو أكثر، وفي الوقت نفسه، لا يمكن إبطال مفعول الترسانة النووية الروسية إلا عن طريق الالتزامات الأميركية في أوروبا.لكن هذه الاستراتيجية تستحق العناء برأي الولايات المتحدة، باستثناء الترسانة النووية الروسية، لا تطرح موسكو أي تهديد على واشنطن، فقد تشكّل روسيا مصدر إزعاج في مناطق معزولة من العالم، لكنها ليست منافِسة قوية بقدر ما كان عليه الاتحاد السوفياتي.وفيما يتعلق بأوروبا وروسيا والولايات المتحدة، تهدف هذه السياسة في المقام الأول إلى إرساء شكلٍ من التوازن العسكري الذي يضمن ألا يطلق أي طرف عدواناً عسكرياً ضد دولة قومية أوروبية وتكون فرصة نجاحه عالية، فإذا تحقق هذا الهدف واستمر عقدا أو عقدَين من الزمن، فقد تسمح الظروف باندماج روسيا مع أوروبا.لكن إذا لم تتحقق هذه الرؤية، فستفتقر روسيا إلى التوازن دوماً وتتابع نسج أحلامٍ لا يمكن تحقيقها عبر استرجاع الماضي الذي لم يكن مجيداً يوماً، إذ لطالما هدّد البلد شعبه والدول المجاورة له، فهذا هو نتاج غياب الكفاءة السياسية من جانب روسيا وأوروبا والولايات المتحدة بعد عام 1991. باختصار، تبقى مخاطر تجربة الخيارات البديلة أقل من التمسّك بالنهج نفسه.* يورغن أورستروم مولير