يشكّل الغزو الروسي لأوكرانيا نقطة تحوّل تاريخية، فهو ينهي الفصل الذي بدأ في نهاية الحرب الباردة، حين حاولت الدول الغربية ضم روسيا إلى النظام الدولي المبني على قواعد محددة، فقد أصبحت روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين دولة منبوذة، وعلى غرار ما فعلته الولايات المتحدة لمواجهة الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، تتولى واشنطن اليوم قيادة الجهود الرامية إلى التصدي لهجوم بوتين الفاضح على الحضارة.تدعم دول كثيرة الرد الذي تقوده الولايات المتحدة على حرب بوتين، لكن يتخذ البعض هذا الموقف على مضض، إذ تتعدد الحكومات التي تعتبر هذا الصراع عودة إلى أيام الحرب الباردة، حيث اضطرت للانحياز إلى طرفٍ دون سواه، وتفترض أن المعركة ليست مسألة مبادئ بل إنها عبارة عن صدام بين خصمَين جيوسياسيَين، إنه تحليل مؤسف جداً لأن العدوان الروسي ليس مقدّمة لحرب باردة جديدة، بل يجب أن يتم التعامل معه بمعناه البسيط: إنه أسوأ عدوان تشهده أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو انتهاك وحشي للقانون الدولي.
لا يمكن أن يتخذ التاريخ مساراً إيجابياً من تلقاء نفسه، بل يجب أن تلتزم الولايات المتحدة بدعم المعايير والقوانين التي ترسم معالم النظام الدولي، مع أن واشنطن كانت قد أضعفت القانون الدولي في بعض المناسبات أيضاً بسبب خياراتها في مجال السياسة الخارجية، ويجب أن تنقسم أعباء معالجة انتهاكات القانون الدولي بالتساوي، فقد اعتبر المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتس، هذه المرحلة نقطة تحوّل تاريخية، فيجب أن تتحرك ألمانيا ودول أوروبية أخرى فتزيد إنفاقها الدفاعي بدرجة كافية، وتُحسّن جاهزيتها للمشاركة في حماية الاستقرار داخل أوروبا وفي محيطها، وتؤدي دوراً رائداً لحل الصراعات الدولية.تتطلب هذه الجهود تحالفاً عالمياً، يجب أن تشمل الشراكة بين الدول التي تلتزم بالقانون الدولي ونصوصه التأسيسية وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان بلداناً من جميع القارات، ويُفترض ألا يكون المجتمع الدولي نسخة مُلطّفة من الغرب، فقد تبقى دول كثيرة على الهامش إذا استمر الصراع بين "الغرب" و"الشرق"، وقد تحتدم المواجهة الحقيقية اليوم بين المعسكر الذي يحاول إعادة ترسيخ نظام أخلاقي وقانوني عالمي ومبدئي، والمعسكر الذي يحمل رؤية معاكسة، لذلك يجب أن يطلق أي تحالف عالمي جديد جهوداً حثيثة لحماية القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.كان التردد في التحرك قد كلّف الولايات المتحدة الكثير في الماضي، فاعتبر عدد كبير من حلفاء واشنطن قرار إدارة أوباما بعدم التدخّل عسكرياً في سورية، في عام 2012، نقطة تحوّل مفصلية، وتردد أوباما في اتخاذ هذه الخطوة لأنه تذكّر التجارب الأميركية في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، وليبيا، حيث فشل التدخّل العسكري في تحقيق النتائج المنشودة وترافق مع عمليات مطوّلة، وخسائر مالية وبشرية هائلة من دون أن تتوقف الاضطرابات، ولاحظ أبرز خصمَين للولايات المتحدة، الصين وروسيا، ما حصل واستفادا من سلبية أوباما، ومنذ ذلك الحين، وسّع البلدان نطاق نفوذهما بعدائية وانتهكا القانون الدولي بشكلٍ فاضح: روسيا في أوكرانيا وليبيا وسورية، والصين في هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي وفي سياساتها تجاه الأقليات، ثم فشلت إدارة ترامب المتقلّبة في كبح الطموحات التوسعية التي تحملها بكين وموسكو.عملياً، لا يقتصر الدور الأميركي القيادي على استعمال القوة العسكرية حول العالم، بل إن الدبلوماسية المسؤولة هي التي تدعم النظام المبني على قواعد محددة، وفي ما يخص الاتفاق الإيراني النووي مثلاً، تم التوقيع على "خطة العمل الشاملة المشتركة" في عام 2015 بعد سنوات من المفاوضات المكثّفة والبالغة التعقيد، فالتزمت إيران ببنود الاتفاق، وخفّفت نشاطاتها النووية، وسمحت للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشآتها النووية، فهكذا تراجع خطر تصنيع قنبلة نووية وشيكة في إيران، ودعم القرار 2231 في مجلس الأمن "خطة العمل الشاملة المشتركة" ومنحها شرعية القانون الدولي، فقد كان ذلك الاتفاق متقناً من الناحية الدبلوماسية، إذ لم يسبق أن جمع أي اتفاق دولي آخر في السنوات الأخيرة هذا الكم من الدول الكبرى: الصين، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، حتى أنه منع اندلاع حرب محتملة في المنطقة، ولم يكن ذلك الاتفاق مثالياً طبعاً، فقد بقي النظام الإيراني الاستبدادي الوحشي في السلطة ولم يدفعه شيء إلى التخلّي عن سياساته الإقليمية المدمّرة. للأسف، قررت إدارة ترامب تدمير الاتفاق، فانتهكت القانون الدولي وأضعفت الثقة بالولايات المتحدة، ونتيجةً لذلك، تفاقمت الصراعات في المنطقة، وتدهور الوضع في اليمن، وزاد الإيرانيون دعمهم لحزب الله في لبنان ونظام الأسد في سورية وتابعوا إضعاف الحكومة العراقية.كان بايدن قد أعلن قبل تسلمه السلطة أنه مستعد للعودة إلى "خطة العمل الشاملة المشتركة"، لكن بدل رفع العقوبات عن إيران فوراً، وهو البند الذي التزمت به الولايات المتحدة عند توقيع الاتفاق، أطلقت إدارة بايدن المفاوضات لإقناع الإيرانيين بتقليص نشاطاتهم التي تنتهك "خطة العمل الشاملة المشتركة"، فلم تنسّق واشنطن تفاصيل هذه المقاربة التكتيكة مع حلفائها، وسرعان ما اتضح أن القول أسهل من الفعل، فشعر الإيرانيون بأنهم تعرّضوا للخداع وطالبوا الولايات المتحدة بتقديم التنازلات قبلهم، وبدأت فرص التوصل إلى حل دبلوماسي للتحديات النووية الإيرانية تتلاشى، ومن المتوقع أن يكون أي اتفاق جديد أسوأ من الخطة الأصلية، ويُفترض أن يكون المأزق الراهن كفيلاً بتذكير المسؤولين الأميركيين بضرورة الالتزام بالقانون الدولي وأخذه على محمل الجدّ. تشكّل الحرب في أوكرانيا نقطة مفصلية أخرى بالنسبة إلى النظام الدولي المبني على قواعد محددة والدور الأميركي في الشؤون العالمية، فقد كان اضطلاع إدارة بايدن بدور قيادي للتصدي لعدوان بوتين العنيف إيجابياً، وأثبت التصويت الذي يدين الغزو في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة، في شهر مارس الماضي، حجم الوحدة الدولية في هذا الملف، لكنّ هذا التضامن ليس قوياً بقدر ما يظن البعض، ففي دول كثيرة، بما في ذلك ديموقراطيات كبرى مثل البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، يُعد الصراع بمنزلة عودة إلى ديناميات الحرب الباردة التي تُجدّد الصدام بين الولايات المتحدة و"الغرب" من جهة وروسيا من جهة أخرى، لكن يلاحظ الكثيرون حول العالم ازدواجية المعايير في الرد الأميركي: خرقت الولايات المتحدة القانون الدولي حين أقدمت على غزو العراق مثلاً وانتهكت سيادة بلد آخر، وفي الوقت نفسه، بدأ الاقتصاد العالمي يتراجع تزامناً مع تحليق أسعار الطاقة، وأصبحت المواد الغذائية أكثر ندرة وأعلى كلفة، حيث يعتبر أكبر المتضررين هذا الوضع نتيجة للعقوبات "الغربية" التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا.لهذا السبب، من الأفضل أن يكون الرد جماعياً على حرب بوتين وأي انتهاكات مماثلة لميثاق الأمم المتحدة، ويُفترض أن يصدر هذا الرد عن شركاء يلتزمون بأسس القانون الدولي ويسعون إلى حمايتها في جميع أنحاء العالم، إلى جانب الولايات المتحدة، يجب أن تبذل البلدان التي تحمل العقلية نفسها جهوداً مضاعفة، بما في ذلك دول مجموعة السبع والحكومات التي تلتزم بالنظام الدولي في جميع القارات انطلاقاً من ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.يُفترض أن يتعلق الهدف العام بتحقيق وعد "الشراكة في القيادة" الذي أطلقه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أمام المستشار الألماني هلموت كول عام 1989، فقد كان التعاون بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لفرض العقوبات على روسيا بعد غزو أوكرانيا، بين العامين 2014 و2015، مثالاً نموذجياً على هذه الشراكة، وبلغ هذا التعاون والتنسيق أعلى مستوياتهما حينها، وتُعتبر "خطة العمل الشاملة المشتركة" مثالاً إيجابياً آخر، إلى أن انسحبت الولايات المتحدة منها بشكلٍ أحادي الجانب، وبالإضافة إلى العدوان الروسي ضد أوكرانيا، تتطلب أزمات أخرى اهتماماً جماعياً وخطوات مشتركة، بما في ذلك الشرق الأوسط والقرن الإفريقي والساحل الإفريقي. ويدخل مستقبل أفغانستان والصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الخانة نفسها، حيث حاولت الولايات المتحدة سحب نفسها من هذين المستنقعَين، وهي خطوة مغلوطة، ومن الأفضل أن تعيد إدارة بايدن مثلاً إحياء عملية السلام عبر تجديد التحالف الرباعي في الشرق الأوسط، وهو الاتفاق الذي نشأ في عام 2002 بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لدعم حل الدولتَين وإيجاد حل سلمي للصراع، ولا يمكن كبح التقلبات في هذه المنطقة عبر سياسة ترامب أحادية الجانب أو فك ارتباط واشنطن عن المنطقة كما فعل أوباما، بل من خلال زيادة الالتزامات المتعددة الأطراف.يستطيع بايدن أن يدعم تحالفاً عالمياً من الدول التي تلتزم باحترام القانون الدولي، ولكن هذه الخطوة تتطلب تغيير العقلية الأميركية، بحيث تنسق واشنطن جهودها مع شركائها بطريقة منهجية وتعتبر حماية القانون الدولي ركيزة لجميع تحركاتها، وفي ما يخص ألمانيا تحديداً وأوروبا عموماً، حان الوقت لتحمّل مسؤوليات إضافية وتقديم أدوات عسكرية ومدنية كافية لإدارة الأزمات، وأخذ زمام المبادرة لمعالجة الأزمات الدولية، والتواصل مع شركاء من خارج محيطهما القريب، فلا تحصل المواجهة الحقيقية اليوم بين الغرب والشرق الشيوعي، كما كان الوضع في الحرب الباردة، بل إنها تضع المعسكر الذي يلتزم بالنظام الدولي في مواجهة معسكر لا يلتزم إلا بالقانون الذي يدعم الأطراف الأكثر قوة.* كريستوف هوسغن
دوليات
الحرب في أوكرانيا نقطة تحوّل تاريخية
27-05-2022