وجهة نظر: غسل الأموال وتجار «الفَلَسْ»
تعوّد المواطن العربي على سماع أخبار نهب الأموال العامة التي يقوم بها المسؤولون من درجة وزير أو أدنى قليلاً أو أعلى قليلاً أيضاً، دون تأنيب من ضمير أو خوف من عقاب، لكن خوف السراق الدائم عادة ما يكون من شعوبهم رغم أنها تقف عاجزة دائماً عن منع السرقات أو إيقاف النهب أو حتى أخذ العلم به، ومع ذلك فإنهم يحاولون إخفاء ما يسرقونه عن الشعب بكل الطرق التي قد يكون أولها وأسرعها إيداع سرقاتهم في بنوك سويسرا ونيويورك وغيرهما، ولذلك فإن هؤلاء الحرامية يستهلكون كل طاقاتهم وتركيزهم وذكائهم في الحذر من شعوبهم وإهمال التركيز في الحذر من البنوك التي يتم ايداع المسروقات فيها.ولأن هؤلاء السراق لم يبذلوا جهداً حقيقياً لكسب الرزق الحلال، فإن خسارتهم لجزء من هذا المال السحت أو حتى أكثر من جزء لن يكون محزناً لهم أو جالباً (للزعل)، ودائماً ما يذكرونني بالنكتة الفلكلورية الأثيرة التي تقول «إن جحا سرق حمار جاره وذهب الى سوق الماشية لبيعه فسرقه اللصوص منه، وحين عاد إلى منزله سألته زوجته بكم بعته، فأجابها برأس ماله».ونتيجة لعدم اهتمام اللصوص الكبار بأحكام حفظ الأموال المسروقة في بنوك الخارج والتركيز على إخفائها عن الداخل فقط، فقد نتج عن ذلك وجود أموال ليس لها صاحب، حيث يقال إن الأموال التي تركها صدام حسين (ورفاقه) مثلاً في بنوك أوروبا وغيرها تتجاوز الخمسين مليار دولار، في حين تتجاوز الأموال التي تركها القذافي ورفاقه خمسيناً أخرى، وقس على ذلك بقية اللصوص من الحجم الكبير أو المتوسط من ذوي المليارين والثلاثة، أو الصغير من ذوي (كم مليون).
وقد ساد الاعتقاد في السابق أن غسل الأموال يقوم على إيرادات تجارة الممنوعات وهو اعتقاد قد يكون صحيحاً في زمنه، لكنه لم يعد كذلك في الزمن الحالي ربما لأن القيود على التدفقات النقدية لدى البنوك لم تعد كما كانت، والمبالغ التي يتم غسلها سنوياً لم تكن بذاك الحجم، فحجم المبالغ (المغسولة) اليوم في كل مكان وعدد الغسالين الذين يتفنون بتبييض الأموال المشبوهة أصبح كبيراً جداً، لأن المسألة لم تعد مجرد عائدات لتجارة الممنوعات وإنما أموال كبيرة جداً ليس لها أصحاب، أموال تم نهبها من ميزانيات دول ومداخيل عامة تم الاستيلاء عليها دون وجه حق، ثم غاب الناهبون والمستولون وتاهت في حسابات البنوك بأرقام و(كودات) مجهولة، فأصبحت تحتاج إلى إعادة تدوير وتغيير ملكية.ولأن الأموال القذرة كثيرة فقد زاد عدد المليونيرات وازدادت أعداد السيارات الفارهة من نوع بنتلي وأخواتها في الشوارع، وأصبحت الوجوه لا تشبه الممتلكات والممتلكات لا تتناسب مع الوجوه، وقد تعلمنا سواء في الجامعة أو من دروس الحياة أن لرؤوس الأموال عوائد كبرى على الدولة ومجتمعها، لكننا لم نر أثراً (للتجار) الجدد على الاقتصاد وتوفير فرص العمل، وإلا كيف يمكننا تفسير أن مليونيراً يملك ملايين الدنانير ويستثمرها في مطعم من فرعين أو ثلاثة، وآخر يملك محل عصير وثالث يبيع ماركات مزورة (أونلاين) ورابع وخامس وغيرهم، ولأن النهايات دائماً تشبه البدايات، فإن هذه الأموال التي جاءت من المجهول ستعود إلى المجهول، وهؤلاء المليونيرات الذين ظهروا فجأة سيختفون فجأة، وقد تعودنا على رؤية مثل هذه اللعبة تتكرر مراراً، فهم مجرد أدوات ضمن لعبة تديرها جهات مجهولة توزع الأدوار والأموال بحسب اعتبارات دقيقة.