تناولت في المقالين السابقين تحت هذا العنوان، لماذا اختار الرعيل الأول عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء بدلا من طرح الثقة فيه، وكيف يتم استخدام استجواب رئيس مجلس الوزراء لتحويل المسؤولية الفردية للوزراء إلى مسؤولية تضامنية بما ينطوى على تنقيح فعلي للدستور، وكيف أصبح رئيس مجلس الوزراء– في زعم الاستجواب- مسؤولا سياسيا عن الخطأ في قرارات مجلس الأمة ورئاسة المجلس، وتأخير ديوان المحاسبة فيما كلفه به المجلس من ملاحقة قضايا المال العام، والديوان ملحق بمجلس الأمة وليس بمجلس الوزراء، فضلا عن مساءلته– في الاستجواب– عن عدم سلامة برنامج عمل الحكومة، الذي تقدمت به فور تشكيلها، والذي لا يمكن أن يكون محلا لاستجواب، وقد أعطت المادة (98) من الدستور لمجلس الأمة الحق في أن يبدي عليه ما يراه من ملاحظات، فهذه المسائل وغيرها كانت يجب أن تستبعد بقرار من المجلس، إذا طلب ذلك رئيس مجلس الوزراء، وكان وارداً أن تحال إلى لجنة الشؤون التشريعية، لإبداء الرأي في ذلك أو إلى المحكمة الدستورية قبل تحديد جلسة لمناقشته إعمالا لأحكام المادة 134 من اللائحة الداخلية للمجلس، وقد كان استبعادها يمكن أن يغير نتيجة التصويت على قرار مجلس الأمة بعدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، وقد كان أحد محاور الاستجواب الأخير الموجه إلى رئيس مجلس الوزراء مسؤوليته عن الهيئات العامة لمكافحة الفساد، فآثرنا أن نفرد هذا المقال للمسؤولية السياسية عن الهيئات والمؤسسات العامة، فهذا الموضوع يتناول كثيرا في الاستجوابات التي توجه ووجهت إلى رؤساء مجالس الوزراء والوزراء المتعاقبين.
المسؤولية السياسية عن أعمال المؤسسات والهيئات العامةبادئ ذي بدء، فإن المسؤولية السياسية عن أعمال الحكومة هي جوهر النظام البرلماني، ولهذا لا يوجد في الدول التي تأخذ بالأنظمة الديموقراطية البرلمانية جهاز من أجهزة السلطة التنفيذية إلا وهناك من أعضاء الحكومة من يتحمل مسؤوليته السياسية، ولهذا عندما أريد إصدار قانون بتنظيم الجامع الأزهر بما يوفر له الاستقلال الإداري والمالي، اعترض بعض الأعضاء في مجلس النواب المصري مطالبين بوجوب تتبعه لأحد الوزراء حتى يتسنى للبرلمان مساءلة الحكومة سياسيا عن أعماله.ولهذا جاءت نصوص الدساتير في المساءلة السياسية بأحكام عامة ومطلقة، والأصل في الحكم العام أن يسري على عمومه، وفي الحكم المطلق أن يجري على إطلاقه، فلا تنحسر المسؤولية السياسية عن أعمال وقرارات المؤسسات العامة وهيئات الإدارة المحلية، فهي لا تزال رغم استقلالها جزءاً لا يتجزأ من الجهاز الإداري للدولة، ولا تزال أعمالها جزءاً لا يتجزأ من أعمال السلطة التنفيذية، المسؤولة أمام البرلمان، على أن يراعى في المساءلة السياسية عن أعمالها الأمور الآتية: أولاً: استقلال الهيئات والمؤسسات العامة وهو استقلال تكفله لها الدساتير أحيانا وقوانين إنشائها، لما تستلزمه إدارتها من أنماط عمل تختلف عن أنماط العمل الحكومية، وللتخفف من أعباء الحكومة المركزية التي تثقل كاهلها، حيث تدير هذه الهيئات والمؤسسات مجالس إدارة يعين بعض أعضائها من ذوي الخبرة والاختصاص ومن الشخصيات العامة بما يساعدها في تحقيق أغراضها، لذلك فإن مسؤولية الوزراء عن أعمال المؤسسات العامة التابعة لهم يجب ألا تجاوز حدود صلاحياتهم وسلطاتهم، وفقا للقوانين المنظمة لها، وبما لا ينتقص من استقلالها الذي كفله لها الدستور في المادة 133، كما وفرته لها قوانين إنشائها. وعلى البرلمان أن يتقبل بصدر رحب ما سيدفع به الوزير المختص مسؤوليته، عن الأعمال التي تباشرها المؤسسة العامة التي يشرف عليها، بأن القانون المنشئ للمؤسسة أو المنظم لها لم يمنحه القدر الكافي من السلطات والصلاحيات التي تمكنه من تصويب هذه الأعمال، وأن دوره هو تنفيذ القانون لا تعديله.ثانياً: الخطأ في التوجيه أو الإهمال في الإشراف والرقابة إلا أن استقلال الهيئات والمؤسسات لا يغل يد الدولة في مباشرة صلاحياتها في التوجيه والرقابة عليها، إعمالا للمادة (133) من الدستور التي قيدت كفالتها لاستقلال المؤسسات العامة بأن يكون ذلك في ظل توجيه الدولة ورقابتها، كما تنص المادة 130 من الدستور على أن "يتولى كل وزير الإشراف على شؤون وزارته ويقوم بتنفيذ السياسة العامة للحكومة فيها، كما يرسم اتجاهات الوزارة ويشرف على تنفيذها". ومؤدى ذلك أن الاختصاص الدستوري للوزير في شؤون وزارته أو في شؤون الهيئات والمؤسسات العامة الملحقة به، أو التي يترأس الوزير مجالس إدارتها ينحصر في: (التوجيه) و(الرقابة). ويذهب الفقه في هذا السياق إلى أن السياسة العامة يرسمها مجلس الوزراء لا يجوز أن تكون محلا لمسؤولية الوزير الفردية في الدول التي تأخذ بهذه المسؤولية، ويفسر ذلك الدكتور محمد فؤاد مهنا بأنه إذا نص الدستور على مسؤولية كل وزير على انفراد، فإن معنى هذا أن المقصود مسؤوليته عن الأعمال التي يتولاها منفردا، أما الأعمال الحكومية فلا يسأل عنها لسبب واضح، وهو أنه لا يشارك فيها بسلطة ذائبة مستقلة وإنما يشترك فيها برأي استشاري فقط نظراً لأن حق البت فيها مقرر لمجلس الوزراء، وحتى إذا فرضنا أنه يشترك فيها برأي معدود فإن القرار للأغلبية، فإنه لا يجوز مع ذلك محاسبته منفردا عن عمل أو إجراء هو من عمل الوزراء مجتمعين، إذ إن المسؤولية هنا يتحملها في هذا الفرض المجلس كله مجتمعا لا فرد واحد من أعضائه. (القانون الإداري العربي– د. محمد فؤاد مهنا– ط 64– المجلد الأول ص423- 424).ثالثاً: لا مسؤولية سياسية عن الإدارة الفعلية بينا فيما تقدم المسؤولية السياسية للوزير عن المؤسسات والهيئات العامة لا تقوم إلا في إحدى حالتين: (خطأ في التوجيه العام) أو (إهمال في الرقابة).وفي حدود ما يملكه الوزير من صلاحيات، وفقا لقانون إنشاء المؤسسة أو الهيئة، ذلك أن الوزير حتى لو ترأس مجلس إدارة أيهما، فإنه لا يكون له إلا صوت محدود في اتخاذ القرارات.لذلك لا تمتد هذه المسؤولية إلى مباشرة الإدارة الفعلية التي تناط طبقا للقوانين بوكيل الوزارة والوكلاء المساعدين وغيرهم من كبار الموظفين وصغارهم، إلا في حدود الاختصاص الدستوري للوزير المنوه عنه والذي يتمثل بالتوجيه والرقابة، كما يسأل الوزير عن إهماله وتقاعسه في الكشف عن الأخطاء التي تقع من هؤلاء وأولئك، ومساءلتهم إداريا عنها، يشاركه في ذلك مجلس الخدمة المدنية من ناحية، وديوان المحاسبة من ناحية أخرى بالنسبة إلى المخالفات المالية.رابعاً: المسؤولية الشخصية ويشترط لصحة الاستجواب وسلامته كذلك، أن يكون الوزير مسؤولا عن هذا الخطأ مسؤولية شخصية ومباشرة، فلا يسأل عن الفعل إلا فاعله، ولا يؤخذ امرؤ بجريرة غيره، وهو مبدأ من المبادئ السامية في المساءلة في أحكام الشريعة الإسلامية، نزل به القرآن الكريم في كثير من آياته البينات من ذلك قوله تعالى: "وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا". (الأنعام 164). وقوله جل وعلا: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى". (فاطر 18) وقوله: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى". (النجم 39). وقوله: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا". (فصلت 46). وقوله: "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ". (النساء 123)، وهو ما ردده الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه الذي يقول فيه: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه". وهو مبدأ لم تصل إليه الدساتير والقوانين الوضعية إلا بعد ثلاثة عشر قرنا، ومن بينها دستور الكويت الذي نص على المسؤولية الشخصية فيما قضت به المادة 33 من أن العقوبة شخصية، وعلى قرينة البراءة في الإنسان التي قررها الدستور فيما تنص عليه المادة 34 من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.هذا مدى ما تذهب إليه المجالس النيابية في معنى المسؤولية الوزارية بحسب الوضع البرلماني الصحيح لهذه المسؤولية التي ليس مناطها مباشرة الوزير للإدارة الفعلية، بل مباشرة الوزير للرقابة الجادة على هذه الإدارة.ملحمة الاستجواب وما قصدته من هذه المقالات إلا أن أعيد إلى الاستجواب مفهومه الصحيح، حفاظا على استقرار الحكم وعلى التجربة الديموقراطية الكويتية التي تتباهى بها شعوب المنطقة، بالشجاعة والجرأة التي يتحلى بها أعضاء البرلمان في مواجهة السلطة التنفيذية، وهو ما يفتقده الأغلب الأعم من برلماناتها، لنعيد إلى الاستجواب ملحمته، باعتباره أرقى وأخطر أدوات الرقابة البرلمانية.
مقالات
في ظلال الدستور: الاستجواب ملحمة التجربة الوطنية ومحنتها (3-3)
29-05-2022