ذهنية الإلغاء
من الكتب التي لفتت أنتباهي لتميّز موضوعها مؤلف للدكتور هاني يحيي نصري يحمل عنوان المقال نفسه، ويسلط فيه الكاتب بعض الضوء على الغلّو المتفشي في مجتمعاتنا بالتمسك الخطأ بالتراث والقيم والعقائد دون العمل ولو في جزء من فضائلها، الأمر الذي يترجم بنزعة، تأخذ شكل العنف غالباً، معادية كل ما هو مختلف ورافضة كل تميّز أو اختلاف، مما حصدنا ونحصد معه مزيداً من التراجع على كل المستويات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية.سواء اختلفنا أو اتفقنا مع جزء أو كل ما جاء في الكتاب المذكور، لا مفر من الإقرار أن النتيجة التي حاول الباحث تقصي أسبابها وكشف مسببيها هي واقع لا ينكره أحد، ومفاده على الصعيد القومي أن العنصريات المقيتة والمعادية لثقافتنا ومجتمعاتنا أصبحت في الإعلام الداعم لها مبررة لا بل مطلوبة ومرغوبة في مواجهة العصبيات المتخلفة التي هشمت صورتنا الحضارية دون أن نعترف بها أو حتى دون أن نستخدمها- كما استخدمها العدو- للمّ شتاتنا الوطني وربط مصيرنا الأممي بقضية مركزية. أما على الصعيد الداخلي، فإن ذهنية الإلغاء تمسنا من جانبين: واحد يُسأل كل منّا- فرادى وجماعة- عن تورطنا في تحققه، وآخر ارتضينا من خلاله أن نكون صيداً سهلاً لأعدائنا، فمعاول الإلغاء الخارجية تستخدمها أيدي الغلاة الداخلية لتجهز الأرضية المناسبة لكل ضعضعة ثقافية وهوان حضاري، لكل تفرّق قبلي وصراع طائفي، لكل تعصب ديني وإرهاب وحشي، لكل فوقية غير مبررة، ولكل تمييز عنصري أو جندري أو طبقي أو حتى مذهبي وعقائدي.
لا شك أن مجتمعاتنا تجني فيما آلت إليه ثماراً فجة لكل أنواع العصبية التي نتحمل مسؤولية توسيع مروحة أشكالها ومضاعفة حجم مخاطرها من خلال كل قناعة أو تصرف أو قول نتورط به دون أن يسمو الى أو ينطلق من سمو القيم وصحيح العقائد، الأمر الذي يزداد سوءاً ويتضاعف تعقيداً بدأب الآخرين على اختراقنا ثقافياً ورهننا ماديّاً ومعنوياً بغية استهداف ما تبقى لنا من إرث حضاري وتفريغ مجتمعاتنا من أدمغتها القادرة على صنع التغيير.من ثوابت التطور الإنساني أن الاقتداء هو أساس التعلم، ومن ركائز التخلف الاجتماعي أن يجنح الفرد الى انسياق غير إرادي نحو اللا إنسانية تحت لواء الحماسة للجماعة التي عادة ما تبدأ بانحدارها الحضاري باتباع الجهّال وهيمنة الجهل، فكما تفقد العبادة جوهرها إذا تحولت إلى عادة، فإن الاقتداء لا يقودنا إلى نهاية النفق إذا ما تحول إلى نسق مكرر تحركه الفطرة «القطيعية» لا الفطنة التنويرية. لعل من المفيد الاستذكار أن كلمة «عصابة»، التي تدلّ في مفهومها السائد على كل جماعة تخرج في تصرفاتها عن القانون الوضعية والتقاليد المجتمعية، لا تبتعد كثيراً في التكوين الشكلي والدلالات الموضوعية عن التعصّب الذي يجد بدوره صدى له في كلمة العصبة التي تعني الأولياء من الذكور! ودلالات هذا الارتباط اللفظي ما يؤشر سلباً الى خطورة الانجرار نحو النزعة الأنانية الفطرية الغريزية التي انطلقت- وفق ابن خلدون- من نزعة طبيعية لدى البشر بالالتحام بالعشيرة بهدف البقاء والمدافعة عن الذات والجماعة، ومن ثم تحولت، لدى أهل البادية والحضر، إلى تفرّق لشيع وعصائب يقاتل بعضها بعضاً ويهشّم كيان الدولة التي يتقلص ظلها شئياً فشيئاً في هذا الجو المشحون والمناخ غير الصحي. وعليه فان الفكر الإلغائي بكل أشكاله المادية والمعنوية، وأبعاده المحلية والخارجية، وصوره الدينية والفكرية، هو إعلان صريح لبداية النهاية الحضارية لأي مجتمع مهما علا شأنه أو زادت مقدراته أو بررت قناعاته وزيّنت تصرفاته، فكل تعصب يتحول حتماً إلى ذهنية رفض ومن ثم إلى نهج إلغاء، وكل متعصّب- في حال فشله أو في حال انتهائه من إلغاء الآخر- سيلتفت لا إرادياً إلى ذاته ويبدأ بالتآكل الداخلي وتجريح جلده بأظافره. يقول الرسول الأكرم والمعلّم الأعظم والحكيم الأعلم مخاطباً الناس لا أمته فقط: «أَيُّهَا النَّاسُ: كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»، ومن ثم يخاطب أتباعه منبهاً ومحذراً «أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».فهل من مستمع وهل من متعظ!؟ * كاتب ومستشار قانوني.