رياح وأوتاد: موقف الدستور من الحكومة البرلمانية ومشاركة المجلس في برنامجها وفي التجمعات العامة
لا أدري إذا كان بعض الإخوة النواب والناشطين قد قرؤوا الدستور ومذكرته التفسيرية، لأن بعض المطالبات والاقتراحات والتصريحات قد يخالف بعضها الدستور ومذكرته التفسيرية ويكون بالتالي سبباً للأزمات.ونقف هنا مع بعض التصريحات التي يطالب بها بعض النواب والناشطين ويطلقون عليها مسمى «التغيير» أو «الإصلاح السياسي»، لنرى إن كانت هذه المطالب موافقة للدستور أو مخالفة له: * وأول هذه المطالب هو مطلب الحكومة البرلمانية أو الحكومة الشعبية، وهي الحكومة التي يشكلها البرلمان بعد الانتخابات في النظام البرلماني، لكن إذا رجعنا إلى الدستور فسنجد أن الدستور استبعد النظام البرلماني كما استبعد النظام الرئاسي، بل انتقد النظام البرلماني انتقاداً شديداً مطولاً فنصت المذكرة التفسيرية على «أن هذه الفضائل البرلمانية لم تنس الدستور عيوب النظام البرلماني التي كشفت عنها التجارب الدستورية ولم تحجب عنه ميزة الاستقرار التي يعتز بها النظام الرئاسي، ولعل بيت الداء في النظام البرلماني يكمن في المسؤولية الوزارية التضامنية أمام البرلمان، فهذه المسؤولية هي التي يُخشى أن تجعل من الحكم هدفاً لمعركة لا هوادة فيها بين الأحزاب»، وأضافت «وليس أخطر على سلامة الحكم الديموقراطي من أن يكون هذا الانحراف أساساً لبناء الأحزاب بدلاً من البرامج والمبادئ»، كما أضافت «وإذا آل أمر الحكم الديموقراطي إلى مثل ذلك ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها، وحُرف العمل السياسي عن موضعه ليصبح تجارة باسم الوطنية».
هكذا انتقد الدستور الحكومة البرلمانية بشدة، واكتفى بحصول الحكومة الجديدة على ثقة الأمير واستبعد تصويت المجلس على الثقة بالحكومة، كما وجه بالتوسع قد المستطاع في تعيين الوزراء من مجلس الأمة، وهكذا اختار الدستور نظاماً وسطاً بين الرئاسي والبرلماني.* والمطلب الثاني هو استبعاد أبناء أسرة الحكم من الحكومة ورئاستها وأحيانا يعبرون عنه بإبعاد حكومة المشيخة، ولكن بالعودة إلى الدستور نجد أنه قد أسند اختيار رئيس الوزراء إلى الأمير وحده، وذلك بأمر أميري، ولم يقيد الدستور الأمير بالنص على اختيار رئيس الوزراء من أسرة الحكم كما لم ينص على حرمان الأسرة من هذا المنصب، ولذلك فإن المطالبة بإلزام رئيس الدولة بما لم يلزمه الدستور تعد مطالبة غير دستورية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوزراء الشيوخ فقد منعهم الدستور من خوض الانتخابات، لكنه لم يمنع توليهم الوزارات، بل نص على أنه «الطريق الوحيد لمشاركتهم في الحكم». إذاً فالمطالبة بإبعاد الشيوخ عن الوزارات يعتبر حكماً جديداً لم يأت به الدستور، وإنما الصحيح أن يطالب الأعضاء باختيار الوزير القوي الأمين سواء كان من أسرة الحكم أو من غيرها. * والمطلب الثالث الذي يطالب به بعض الأعضاء وسبق أن تم عرضه في الحوار الذي شارك فيه الرئيسان مع بعض الأعضاء وتم رفضه هو أن يتضمن برنامج الحكومة الاقتراحات التي يراها النواب ومطالبهم وتوجهاتهم، ولو رجعنا أيضا إلى الدستور لوجدنا أن المادة 98 من الدستور نصت على «تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة، وللمجلس أن يبدي ما يراه من ملاحظات بصدد هذا البرنامج»، إذا فالبرنامج حسب الدستور تقدمة الحكومة إلى المجلس، أي لا يشارك في وضعه أعضاء المجلس، ودور المجلس أن يبدي ما يراه من ملاحظات عليه. وتزيد المذكرة التفسيرية على ذلك فتقول: «ولكن هذه المادة لم تشترط لبقاء الوزارة في الحكم طرح موضوع الثقة بها على المجلس، بل اكتفت بإبداء المجلس ملاحظاته بصدد هذا البرنامج»، وبهذا يتبين أن محاسبة رئيس الوزراء باستجوابه فور تعيينه بسبب عدم وضع اقتراحات النواب في برنامج الحكومة محاسبة غير دستورية، والصحيح هو ما دأبت عليه المجالس بتشكيل لجنة برلمانية للرد ولإبداء الملاحظات على برنامج الحكومة.* والمطلب الرابع هو مخالفة بعض النواب الحاليين والسابقين وبعض الناشطين لنص الفقرة الثانية من المادة 44 من الدستور والتي تنص على: «والاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون»، وبناء على هذه المادة صدر القانون الذي نص على شرط الترخيص لعقد التجمعات، وعندما طعن في هذا القانون أمام المحكمة الدستورية بناء على طلب محامي المتهمين في إحدى القضايا السابقة حكمت المحكمة في الحكم الشهير (2014/8) برفض الطعن، وبينت المحكمة في حكمها أن التجمع في الميادين العامة والطرق يختلف عن الاجتماعات العامة وإن كانا يتشابهان في الأهداف والحضور، فقالت «وكان الدستور وإن قرر للأفراد حق التعبير عن الرأي عن طريق التجمع السلمي إلا أن للقانون أن يضع لهذا الحق من الضوابط ويورد عليه من القيود ما يحول دون إساءة استعمال الفرد لحقه على وجه يضر بصالح المجموع»، وأضافت «فيتسع نطاق سلطة المشرع التقديرية بالنسبة للحقوق التي قد يترتب عليها مساس بحقوق وحريات الآخرين»، كما أضافت «لأن التجمع في الطرق والميادين العامة إنما يمس حقوق وحريات الآخرين، والإضرار بمصالحهم وتعطيل الحركة الاقتصادية وتهديد السكينة العامة»، وهذا مشاهد للأسف، وشرحت المحكمة الفرق بين الاجتماع العام وبين التجمع في الطرق والميادين فقالت «والحاصل أنه لا يُساوى بين الاجتماعات العامة والتجمعات لما بينهما من تباين في الطبيعة والآثار، ووجه الاختلاف ظاهر بالنسبة إلى التجمعات، إذ إنها تتكون في الطرق والميادين العامة»، وبينت المحكمة «أن طريقة التعبير فيهما مختلفة»، «مما يستوجب معها أحكاماً من خلال التنظيم التشريعي لاعتبارات المصلحة العامة والنظام العام»، وأضافت المحكمة أنه بإمكان طالب الترخيص الطعن في قرار المنع أمام المحكمة الإدارية إذا كان متعسفاً مثله مثل أي قرار إداري، أما القانون المتعلق بالترخيص فهو صحيح دستوراً ولذلك رفضت المحكمة الطعن في القانون.وهذا الذي حكمت به المحكمة هو الأقرب للشرع، وهو الموافق لفتوى الأوقاف وفتوى الأستاذ الدكتور محمد الطبطبائي، جزاه الله خيراً، الذي تم الهجوم عليه للأسف دون علم شرعي ولا دستوري.لذلك كانت الاجتماعات العامة في الدواوين وفي المسارح وفي جمعيات النفع العام هي الأصح شرعاً ودستوراً والأسلم للوطن والأجدى في توصيل الرسائل الوطنية دون فوضى أو إخلال.* ختاماً أتوجه بنصيحة خالصة إلى الإخوة أعضاء مجلس الأمة والناشطين بضرورة عرض مطالبهم السياسية والتغييرية الكبيرة على الدستور، مثل المطالبة بحصول الحكومة على الثقة من المجلس فور تعيينها، أو استجواب الوزراء قبل بداية عملهم، أو إلزام الحكومة بإدخال مطالب الأعضاء في برنامجها، أو غير ذلك من المطالب التي تتم المطالبة أو العمل بها الآن، فإن كانت تخالف أحكام الدستور فلا يجوز فرضها على الحكومة والنظام أو التصعيد من أجلها أو محاسبة الحكومة ورئيسها عليها، والطريق الأسلم هو التوجه إلى اقتراح تعديل الدستور، فإن وافقت إرادة الأمير على هذه التعديلات وتم تعديل الدستور يصار بعد ذلك إلى تحقيق هذه المطالب، أما إذا رفضها الأمير فالالتزام بما جاء في الدستور هو المتاح أمامهم مع استمرار الحوار الهادئ مع الأمير، وعلى الحكومة الدفاع عن أحكام الدستور والوقوف ضد الخروج عليها إلى أن يتم تغيير هذه الأحكام.