الصورة:

أحمد الخطيب في دهليز مبنى "الطليعة" - بنصف إضاءة، متكئاً على عكاز - يغادر بعد اجتماع أسبوعي.

Ad

عيناي عدسة كاميرا مُحبّة تمشي خلفه في الممر، وتنزل معه عتبات السلّم.

لتعويض الصورة المفقودة، سأعيد ترتيب مواقع الضوء والظل، واستحضار الأصل من مخزن الذاكرة. تظهير الصورة الأصل بحدودها، وألوانها، وقامتها، ومشيتها، ومساحات سقوط الضوء والظلال في الزوايا، وتبادلهما الأدوار، حيث الكاميرا في ظهره، لا تبعد ثلاثة أمتار، تظهر القامة الشاهقة من ذاتها، من ظلها، المتكئة على عكاز (للعكاز ظل آخر أطول من الخشب المصقول)، ولطالما أيقنت أن العكاز بيد الخطيب ليس إلّا نصيحة زوجة محبة أو ابنة تحرس خطوات أبيها)، عزمه كان أقوى وتوقّده التسعيني كان مذهلاً.

الظل يملأ الممر، والنزول بطيء، وكأنه تأمّلٌّ وتفكير، بخلاف الحيوية التي كان عليها قبل دقائق في مكتبة الطليعة - مكان الاجتماع، بدليل أنه يتوقف أحياناً على السلّم ويمسك يدي ويهمس بفكرة شاردة لا تصلح للاجتماع، ويضحك...، لأنّه خصّني بسرٍّ مشاغب.

روح الخطيب طفل يركض في البرية، حُراً طليقاً (منطلقاً) بلا قيود، بعدما حسم أمره مبكراً، مبكراً جداً. لا انتكاسات اعترضته ولا تحوّلات المجتمع ولا تبدله، ولا طعنات "الرفاق" العرب أو الكويتيين ولا المحازبين، هدفه الإنساني الأسمى كان يقوده إلى آخر أيامه، وأظنه هو الذي كان عاصمه عن المَيَلان.

صلته وإيمانه بالأجيال الشابة الجديدة - كأنهم رفاقه - كانا المصل الذي يجدد عروقه، وينعش روحه، ومراهنته على "ربيعهم" كان يقيناً لا يقبل الشك. ومداخلتي "الأجيال يا دكتور تغيّرت" للتشكيك في مراهنته، كانت من نوادر غضبه في الردّ علي، كأنني طعنته في الأمل؛ أغلى ما يملك.

بعدها - ولأكثر من موقف معه - آمنت في قناعةٍ فسيولوجية غريبة: الأمل يطيل العمر.

"قل كلمتك وامْشِ" هو هكذا، بخلاف كل السياسيين الذين يستميتون في إقناع محدثهم وتجميع مريدين وأتباع، كعادة الحزبيين المعتّقين، الخطيب غير حريص ولا يجتهد في تجميع العميان من حوله.

في صدره مساحة واسعة للجميع، يختلف مع الإسلاميين بكل تفرّعاتهم ولا يكرههم، (كم مرّة امتدح أحدهم بأنه بطل)، يختلف مع الشيوخ (من أبناء الأسرة الحاكمة) ولا ينبذهم ولا يحقد عليهم، (كم مرّة مدح الشيخ الفلاني بأنه نظيف)، السماحة الراقية التي لا تتنازل عن مبادئها، وتعمل في مظلة الوطن.

دائماً، "أبو البنات" يملك عاطفة فيّاضة، تشمل الجميع، كل من حوله من ناس وأصدقاء ومجتمع، كأنه يستقي من الأنثى فائض جيناتها.

علاقته مع السلطة/ وضد السلطة علاقة أسطورية نادرة في الكويت والعرب، لا يُحسن أحد النجاة من مهاويها وحوافّها غيره. لم يقع من الحافة ويميل ويهادن ويستسلم، ولم يشتم ويَفجُر في كل خصومة واختلاف. محترم عنيف باعتراضه، وظل يعترض على أخطاء السلطة إلى يومه الأخير على "الكرسي".

كم ظلاً لـ "السدرة"؟

كم طبعة نيجاتيف لتلك الصورة، كم قامة تفرعت على تربة الوطن وتحت شمسه تحاول الاقتداء بالقامة الأصل؟

سيكون للصورة أبناء وسلالات وحافظو عهد وأوفياء - على قلّتهم - وسيكون هناك تاريخ بدأ للتو لينفي موت الشجرة الفيزيقي والفقد والانقطاع.

ستبقى القامة ويكبر الظل، ولا ضرورة للعكاز.

موقف أخير:

في أيامه الأخيرة، ولم يكن خابٍ اتّقاد ذهنه وإنصاته لليوم الأخير، سأحكي وأختم - ما يعد كشفاً بعُرف الصحافيين - كان مسعى ما سُمّي حينها "الحوار الوطني" في الكويت وترتيباته وشخوصه - وكان لي رأي مغاير عن "الحوار" ومحتواه وأهدافه، واقتحمت الخطيب في

"ديوانيته" لتبيان رأيي، حينما أحسست أن "اسمه" الكبير كان مستهدفاً ضمن قائمة تسويق هذا المشروع، استمع ووضّح وتكلّم، بحضور المحامي الصادق عبدالمحسن المطيري، الذي كان شاهداً من أهل البيت، ولضمان النجاة باسمه تواصلت مع ابنته د. أريج، التي أدت دورها المتوقّع في الحفاظ على الاسم الكبير من الدخول في وحلٍ قادم.

مَن قال إن الشجر الأخضر يموت؟!

وضّاح