رغم الارتفاعات القوية التي سجلها برميل النفط الكويتي منذ مطلع 2021 حتى نهاية مايو الماضي، والتي تجاوزت نسبتها 53.7 في المئة، وصولاً إلى مستوى قياسي خلال 10 سنوات عند 121 دولاراً للبرميل، متجاوزاً سعر التعادل في الميزانية العامة للدولة «75 دولاراً للبرميل» بـ 61.3 في المئة، فإن أياً من مؤسسات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى (موديز - فيتش - ستاندرد آند بورز) لم ترفع من تقييمها لتصنيف الكويت السيادي، الذي انخفض أكثر من مرة بفعل تدهور أسعار برميل النفط الكويتي لمستويات لامست 11 دولاراً خلال جائحة «كورونا»، بل إن هذه المؤسسات لم تعط حتى نظرة مستقبلية «إيجابية» لآفاق الاقتصاد الكويتي.

Ad

لماذا لا يتحسن التصنيف؟

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كان انحدار سعر برميل النفط الكويتي عاملاً مهماً في خفض التصنيفات الائتمانية لدولة الكويت، لدرجة أن إحدى هذه الوكالات (موديز) خفّضت وقتذاك تصنيف الكويت درجتين دفعة واحدة إلى (A1)، في حين أن تضاعف سعر برميل النفط نحو 11 مرة مقارنة بأدنى مستوياته خلال الجائحة لم ينعكس، لا على التصنيف السيادي، ولا النظرة المستقبلية لاقتصاد البلاد بصورة إيجابية؟

لغة جديدة

المطلع على «لغة» تقارير التصنيف السيادي عن الكويت الصادرة من المؤسسات الثلاث، خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً في فترة الجائحة وما بعدها، يلمس درجة ما من تفهم أوضاع البلاد الاقتصادية أكثر من تلك التقارير التي تزامنت مثلاً في الفترة ما بين انخفاض أسعار النفط في نهاية 2014 إلى بداية ظهور تداعيات «كورونا» على الاقتصاديات عام 2020، فالتقارير، التي كانت تحمّل المجتمع، لا الدولة، مسؤولية الإخفاق الاقتصادي، أو ترى في زيادة الإنفاق العام على المشاريع والمناقصات محفزاً للإصلاحات الاقتصادية، باتت تتحدث مؤخراً عن عجز المؤسسات على إيجاد حل مستدام طويل الأجل بشأن الاحتياجات التمويلية، أو التحذير من استنفاد صندوق الاحتياطي العام، أو اعتبار أن زخم الإصلاح الاقتصادي الشامل في البلاد بطيء ومعقّد، حتى حديث هذه التقارير عن ضرورة فرض الضريبة والخصخصة ومراجعة «الدعومات والتوظيف الحكومي» بات يرافقها حديث عن انتقاد تأخر تنفيذ مشاريع تهدف إلى تحفيز القطاعات غير النفطية مثل النقل والخدمات اللوجستية كمدينة الحرير وميناء مبارك الكبير… وهذا تطور لافت وغير مألوف في لغة وصياغة تقارير التصنيف الائتماني الخاصة بالكويت.

«موديز» تتخلى عن نصائحها

بل إن الخيار الأساسي، الذي طالما أجمعت مؤسسات التصنيف العالمية عليه كحل لأزمة السيولة في البلاد، وهو إقرار قانون «الدين العام»، تخلّت عنه وكالة «موديز» في تقريرها الصادر قبل أسبوع ولو مؤقتاً، إذ أشار التقرير إلى أن رصيد الموازنة العامة في حالة فائض، مما «يلغي الحاجة إلى التمويل الحكومي مؤقتاً، في حين أن هذه الاحتياجات ستعود من السنة المالية 2024 فصاعداً، وفقاً لافتراضات الوكالة بشأن أسعار النفط، إذ ستواجه دولة الكويت مرة أخرى عجوزات مالية».

أقسام ونظرة وتصنيف

والتقارير الائتمانية تنقسم إلى قسمين: الأول تصنيف حالي بدرجة معينة أعلاها «aaa»، وهو وصف لوضع مالي في فترة وظرف معينين أكثر، لكونه تحليلاً عميقاً للحالة الاقتصادية، ويتعلّق بمراجعات فصلية أو سنوية، أو حتى بأوضاع طارئة محددة جيوسياسية واقتصادية وغيرها مثل تداعيات «كورونا» أو حرب روسيا - أوكرانيا، وهو موجه للجهات التي تمنح الائتمان، أي الدائنين، مما قد يرفع أو يخفض كلفة الاقترض على الدولة أو مؤسساتها المصرفية والمالية، وأيضاً موجه للمستثمرين الأجانب، بالتالي أيضاً يقلل أو يزيد حجم الاستثمارات الأجنبية في البلاد، تبعاً لملاءة التصنيف، وبالعادة يصاحب التصنيف ما يعرف بالنظرة المستقبلية، التي تأخذ واحدة من ثلاث صور: «إيجابي»، أي متفائل باحتمالية رفع التصنيف في المستقبل، أو «سلبي» يعبر عن التشاؤم من أداء الاقتصاد، ويشير إلى احتمالية تراجع التصنيف في المستقبل، والأخير «مستقر»، وغالباً ما يعكس ثقة المؤسسة باستمرار التصنيف الحالي للدولة وثباته.

لقد حازت الكويت في آخر ثلاثة تقارير من مؤسسات التصنيف الثلاث، التي أكدت التصنيفات السابقة نظرة مستقبلية «مستقرة» من مؤسستين هما: «فيتش»، و«موديز»، وأخرى «سلبية» من «ستاندرد آند بورز»، ورغم أسعار النفط المرتفعة فقد كان من المفترض أن تدعم تصنيف الكويت أو النظرة المستقلبية نحوها، غير أن ارتفاع أسعار النفط دون اتخاذ إجراءات إصلاحية جذرية على مستوى الاقتصاد جعل هذه المؤسسات أكثر قابلية لفهم فكرة أن احتمالات تكرار الأخطاء الاقتصادية السابقة، وتعميق الاختلالات الهيكلية، بل حتى تحميل المالية العامة أعباء إضافية ذات التزامات مستقبلية، تبدو أكثر واقعية من احتمالية تحقق الإصلاح الاقتصادي.

ومنذ الجائحة حتى نهاية الأسبوع الماضي تراجع تصنيف الكويت الائتماني درجة واحدة من مؤسستي «فيتش» و«ستاندرد آند بورز» ودرجتين من مؤسسة موديز في وقت تضاعف فيها سعر برميل النفط، لكن دون اتخاذ أي قرار إصلاحي اقتصادي جوهري.

مخاوف المستقبل

مخاوف المستقبل في الكويت لا ترتبط فقط بالتصنيف الائتماني، أو توقعات المؤسسات الدولية لمستقبلها، إنما فيما يتعلق بقدرة النظام الاقتصادي على تحقيق الأمان الاجتماعي، الذي توفره فرص العمل أو حماية الطبقة المتوسطة، ناهيك بقدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية كالسكن والتعليم والصحة، فجائحة كورونا مثّلت إخفاقاً في تعامل الإدارة العامة مع التداعيات الاقتصادية وصلت إلى مستوى بحث الدولة، التي تمتلك ثالث أضخم صندوق سيادي في العالم، عن آلية لتوفير رواتب موظفيها شهراً بشهر، وكأنها شركة ورقية عديمة الأصول، فيما كشفت ارهاصات الحرب الروسية - الأوكرانية عن اختلالات عميقة في ملف الأمن الغذائي المعتمد بشكل فاضح على الاستيراد الخارجي، وهذه نتائج متوقعة من حكومات أقصى اهتمامها الاستمرارية، لكنها أيضاً تخفق حتى في هذه المهمة السهلة إذ إنها لا تلبث تتشكل حتى تستقيل بعد أسابيع.

● محمد البغلي