الحضارة تموت انتحاراً لا قتلاً
بعد أن يُسكت صوت المنبه بغية الاستفادة من بضع دقائق يأمل منها أن تعوضه شيئاً من نقص النوم الذي يرهقه ويشتت ذهنه، يستيقظ متأخراً على شعور من الخمول وألم في العظام بسبب ما تعرض له بدنه من هواء التبريد الاصطناعي، وبتأثير مما تنشقه طوال اليوم من هواء غير نقي، وبالطبع بفعل ركونه إلى الفراش بعد فضّ المجلس أو إقفال المقهى أو انتهاء مباراة كرة القدم!يستعجل الخروج من المنزل لمسابقة الزحمة المتوقعة في الطرق العامة وعدم التأخر على واجب «التبصيم» الإلزامي... يرتشف فنجانه الصباحي وعيناه تجولان بين صفحات الجريدة التي يستطلع عناوينها دون تكبيد النفس عناء الخوض في غمار سطورها... وسرعان ما تبدأ جولاته اليومية على «الربع» من زملائه في العمل للتداول في آخر تطورات الساعة و»هبّات» الموسم و»تراندات» وسائل التواصل الاجتماعي!وبعد مرور ثماني ساعات يمضيها في «الدوام» على قاعدة «مُكره أخوك لا بطل»، يمرّر الوقت خلالها غائراً في مقعد مريح، مركّزاً في شاشة التلفون النقّال، ومستطلعاً من حين لآخر أحوال المنزل والأهل والأصحاب عبر سمّاعة الهاتف المكتبي، يعود الى منزله مرهقاً، عاقد الجبين، ومسارعاً الى التهام ما جنته يدا الطبّاخ مما لذّ وطاب، قبل الاستسلام لقيلولة تعطيه دفعاً يمكّنه من الخروج نشيطاً لمقابلة هذا أو مواعدة ذاك أو تلك!
ها هو، بشيء من واقعية التفصيل، روتين الحياة اليومية للموظف-المواطن الذي يرتضي أن يبقى رقماً لا قيمة له في التعداد السكاني، ويشغل محلّاً غير لازم في سلسلة الإنتاج والإنجاز، في حين تؤهله مقدراته الذاتية ويمكنه واقع بيئته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية أن يكون رقماً صعباً في مسار البناء الحضاري.***يقول المؤرخ البريطاني «أرنولد توينبي» إن «الحضارة تموت انتحاراً لا قتلاً» قاصداً بذلك تسليط الضوء على فعل أيدي البشر في تجاهل إرثهم الثقافي والتخلي عن قيمهم الحضارية وفقدانهم الدافع للتقدّم بعد أن تتجه إرادتهم تدريجياً لتجاهل واجب السعي والفرار من درب النجاح والاستغناء عن نعمتي الأمل والعمل.فليس من العدل ولا من الواقعية أن نعلّق فشلنا الحضاري فقط على شمّاعة مخطط الأعداء الهادف الى قتل الطموح لدى أجيالنا وتحطيم ما تبقى من إرثنا الحضاري وضعضعة ما نملكه من مقدرات وسرقة ما لدينا من ثروات، بل إن لما ترتكبته أيدينا أفظع الأثر بما تؤول إليه أحوالنا.التقدم الحضاري أسمى من أن يطوله الخاملون، والثمار الناضجة أبعد من أن ينالها المستلقون في فيء الغصون، والسجل الذهبي للأمم لا يحفره إلا إزميل الكادحين، كما أن اليأس ليس من شيم الناجحين، والاتكالية ليست من مفردات التقدّم، والثرثرة والشكوى وتبادل التهم لا تعدو أن تكون هروباً من المسؤولية والتفافاً على واجب إصلاح الذات قبل إصلاح الحياة.*** فكرة هذه السطور أتتني من مشاهدة مسائية لوثائقي حول الإنجازات العمرانية في الصين، تلك البلاد الشاسعة التي- رغم ما يعطيه الإعلام الغربي من انطباعات سلبية عن واقعها الديموقراطي- تبهر العالم بتاريخها الحضاري، وإرادة شعبها العبقري، ومستقبلها الذي يبنى على وقع أسرع نمو اقتصادي على وجه المعمورة.وقد لفتني تحديداً تصميم المعنييّن على افتتاح أعلى طريق في العالم، والذي سمّي «طريق السماء» كونه شامخاً على ارتفاع 4200 متر فوق مستوى سطح البحر، بطول إجمالي يبلغ 36 كيلومتراً، وارتفاع رأسي يبلغ نحو 1000 متر، متغلّبين في إنجازه على كل الصعوبات المادية واللوجستية، ولا سيما الطبيعية التي زنّرت بالخطر عملية حفر الأنفاق وبناء القواعد الضخمة والعواميد المرتفعة في منطقة تتكرر فيها الزلازل وتشهد منحدراتها الجبلية انهيارات ترابية مستمرة!المفاتيح السحرية لكل ذلك ترسم معالمها بضع عبارات: قرار صائب، أهداف واضحة، خطة شاملة، تصميم مدروس، حسم وعزم، وشعب ينطلق من ماضيه المشرق لتأسيس حاضر فاعل يمهّد لبناء مستقبل مبهر.المحرض والمخطط والشريك والفاعل هو نفسه: الشعب الصيني الذي لا يلتهي بمماحكة سياسية، ولا يضيّع الجهد بجدال عبثي، ولا يأبه لضغوط أجنبية، ولا يعلّق فشله على التدخلات الفضائية، ولا يستعير لبناء مستقبله دراسة خارجية ولا يستورد عمالة أجنبية، ولا يجد متسعاً من الوقت أو فسحة من الرفاهية المؤقتة والمصطنعة لممارسة دور «السيدّ» الذي يداري فشله خلف قناع التلذذ بإعطاء الأوامر ووضع الضوابط والنواهي والتبجّح في جلساته العامة والخاصة.***مستقبلنا نصنعه بأيدينا، وفشلنا سنُسأل عنه في الدنيا والآخرة.* كاتب ومستشار قانوني.