لي مع السماء قصص بل ربما روايات، وخصوصاً تلك التي تتزين بالألف أو كما كان يبدو كواكب من النجوم بالملايين، كانت ليالي صيفنا كما هي صيفيات شعوب البلدان الحارة مغلفة بالهدوء رغم وشوشات النجوم التي تزين سمواتنا، ربما لأننا كنا نلتحف السماء في ليالي الصيف الحارة، فلم تكن ليالي صيف الخليج أو ربما كل بلدان العالم بهذه الحرارة كما هي الآن، وربما لأنه كان من المعتاد أن نرحل في الصيف الى المناطق الأكثر قرباً من البحر بحثاً عن نسماته المنعشة، وفي أسوأ الظروف تتحول أسطح منازلنا إلى غرف نوم. لا يمكن أن تمحى من الذاكرة فرحة بدء طقوس التحضير للنوم، حيث تتحمل أمي ككل أمهاتنا مسؤولية ترتيب سراير تصطف ملتصقة وفوقها شراشف بيضاء ناعمة الملمس كجلد الأطفال، ثم قوارير الماء المبرد بالثلج والمعطر بماء الزهر أو ماء «المرقدوش» وهو ماء من شجر النخيل التي كانت أكثر الأشجار حضورا في ذاكرتنا، حيث تظللنا وتطعمنا رطبا وبلحا مسكرا بمحبة من يتحمل العناية بهذه النخيل إلى أن تطرح بلحا أحمر وأصفر، قيل لنا عندما كبرنا إن بلدنا هو بلد المليون نخلة، وكنا في صغرنا لا نصدق ذلك، أي أن يكون هناك نخيل على هذه الجزيرة أو أرخبيل الجزر أكثر من عدد البشر.
كثرت قصصي مع سموات مختلفة في جزر وبلدات ومدن، وبقي كثير منها مغروسا في الذاكرة، تدور في كثير من المقارنات مع سماء طفولتنا الأولى التي اختفت تماما، كما كثير من نخيلها المليون، وكل تفاصيلها شديدة الخصوصية والجمال.حتى جاء ذات يوم فأخذت العزم فيه بأن أستجيب لبعض الجنون في حياة مليئة بالتحضير المسبق والمدروس جدا، فكان أن وافقت على دعوة بعض الأصدقاء للسفر من القاهرة إلى العريش، ولأننا جميعا سننهي أعمالنا الرسمية في وقت متأخر من يوم الخميس، فقد قرروا جميعا واستجاب جزء مني وبقي الآخر متخوفا ورافضا حتى التحفت بسماء سيناء، ورأيت أطياف نخيلها بين ضوء عربة وشاحنة، حينها كان كاسيت السيارة (نعم كاسيت قبل ال سي دي وكل التكنولوجيات الأخرى). هناك شيء خاص بتلك السماء أخذني بعيداً إلى ليالي طفولة كدت أقرر أنها لن تعود، مما زاد جمال سماء سيناء المرصعة بملايين النجوم المصطفة واحدة جنب الأخرى حتى لتخال أنها تتابعك وتسير فوقك لتحميك من أي قبح قد يشوه أو كان قد تشوه. في تلك الليلة استسلمت لمقارنة سماء سيناء بتلك التي عرفتها تلك الفتاة الصغيرة في ليالي المحرّق الصافية، وأعاد صوت عبدالوهاب كثيراً منها رغم أن حليم كان هو رفيق السنوات الأولى، كم تمنيت أن تطول المسافة من القاهرة حتى العريش التي أمضينا فيها ليلة واحدة امتلأت بكثير من التفاصيل التي زادت جمال صورة السماء الأولى، ورسخت تلك العلاقة مع السماء الليلية ونجومها.اندهش ذاك الرجل الطيب من أهل العريش من لهجتي التي تقترب من لهجتهم وكذلك المكانة الخاصة للنخيل والبحر الذي يلتحف سماء شديدة الصناعة النادرة إلا في تلك الأماكن التي تبقى مخزنة في ذاكرة بدأت تمتلئ بكثير من القبح والدمع على فراق لأناس رحلوا، والأشد ألماً هو موت بعضهم وهم أحياء يرزقون، يرددون عبارات مزيفة كما هم، عندما نحذف من مثلهم من خزان الذاكرة يبقى ذاك البسيط ساكن العريش الذي لم تتقاطع حياتي به سوى للحظات، أشد حضورا منهم كلهم ربما لشدة وضوح صدقه وبراءة لا تشوبها تجاعيد الزمن.كثير من السموات والنجوم ستمر من هنا أو هناك وتبقى تلك الأولى وبعدها سماء سيناء هي ما تجعل كل من حضر من بعدها يسقط مع أول محاولة للمقارنة الصعبة. يبدو ذاك الزمن في هذه اللحظة وكأنه قادم من أفلام الخيال لكثير من أطفالنا بل شبابنا أو يثير ضحكهم الذي قد يتحول إلى سخرية لجيل يرون أنه يعيش في زمن آخر أو ماض بعيد جداً ولا يتصورون كيف كان الليل دون تلفزيون أو هاتف ذكي بكل ما يحمله من كثير من الغث والسمين الذي اختلط حتى أصبح سريع الذوبان أو حتى ضاع المفيد في كومة من السخف والتسفيه والعبث ! صعب أن يتخيل أحدهم أن تسلية النائمين فوق السطح كانت مسابقة عد النجوم، حيث يدخل الأطفال في منافسة إلى أن يسقطوا صريعي التعب والنعاس، أهلنا قالوا لنا قبلها إن نومهم بعد تلك الأيام لم يعد كما كان، وافتقدوا نومهم العميق بأحلام سعيدة. عندما رحلت النجوم عن سمائنا ثم اختفت السماء أيضا خلف كثير من سحب التلوث أو خلف ناطحات للسحاب وكثير من الكونكريت، لم يعد أحد ينام في المدينة حتى تلك التي انتقلنا للعيش فيها، أي المنامة، هي الأخرى رحلت نجومها وتلونت سماؤها بكثير من غبار وتراب وابتعد البحر تدريجيا، واختفى ثم أصبح ضحية خصخصتهم التي لم يسلم منها طير ولا قطرة ماء أو ذرة من ملح بحرنا الجميل حتى زحف الإسمنت ليسرق أحلامنا وذكرياتنا، لنتحول إلى مخلوقات لا تشبه نفسها ولا حتى ما كانت عليه. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
تلك السماء
06-06-2022