منذ أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، أصبحت عاصمة جورجيا من أكثر الأماكن إثارة للاهتمام على وجه الأرض، فقد تدفق إليها عدد كبير من المنتمين إلى النخبة الثقافية والفكرية الروسية من الفنانين، والكتاب، والصحافيين، والممثلين، والمخرجين، والفلاسفة، والأساتذة، وإذا دخلت إلى أي مقهى، فستسمع حتما اللغة الروسية وتتعرف على شخص تعرفه، وتبليسي مدينة دافئة فاتنة وصغيرة، حيث يستطيع المرء أن يرى كل شيء بسهولة، وهناك يرتفع عدد لا يحصى من الأعلام الأوكرانية التي تحمل شعارات تعبر عن دعم أوكرانيا، هذا فضلا عن الرسائل المكتوبة على عجل على أسوار وجدران المنازل: اللعنة على بوتين؛ اللعنة على روسيا؛ ولتذهب السفينة الحربية الروسية إلى الجحيم.

سرعان ما تحولت الجملة الأخيرة، «لتذهب السفينة الحربية الروسية إلى الجحيم»- التي كانت رد قوات حرس الحدود الأوكرانيين المتمركزين على جزيرة الثعبان في البحر الأسود على مطالبة روسيا لهم بالاستسلام في بداية الحرب- إلى شعار للمقاومة، والمشكلة هي أن كل الروس أصبحوا الآن مدانين باعتبارهم من مؤيدي الرئيس فلاديمير بوتين، وكأنهم كانوا على متن تلك السفينة الحربية.

Ad

سافرت إلى تبليسي مع أطفالي وزوجي (رئيس تحرير قناة Dozhd، القناة التلفزيونية الروسية المستقلة التي أُغـلِـقَـت مؤخرا) بعد إغلاق النافذة الأخيرة لحرية التعبير في روسيا، حتى بعد أن أعلنت الحكومة الروسية أن القناة «عميلة أجنبية» في أغسطس 2021، كان من المسموح لي أنا وزوجي بالعمل، لأن بوتين رأى أنه من الضروري الحفاظ على واجهة الديموقراطية.

لكن الغزو قضى على ذلك التصور، فعلى الرغم من اضطهاد المعارضة والصحافيين، وفساد المحاكم، والنزعة الاستبدادية، فإن روسيا قبل الرابع والعشرين من فبراير، كانت تعطي العديد من الليبراليين بعض المساحة للتنفس، بل حتى التعبير عن الرأي علانية، لكن أي روسي الآن من الممكن أن يسجن لمدة تصل إلى 15 سنة إذا تحدث بالحقيقة في شأن الحرب أو نشرها، فقد كان ذلك تحذيرا أخيرا.

بعد تحركنا، الذي ما زلت لا أجرؤ على وصفه بالهجرة، بدأ الإدراك يصدمنا: إن بوتين لم يدمر حياة ملايين الأوكرانيين فحسب، بل حياتنا أيضاً، وعلاوة على ذلك، نجح بوتين في تحقيق شيء لم يكن من الممكن تخيله من قبل: فقد استجاب العالم المتحضر، بقيمه المتمثلة في الإنسانية واحترام كل فرد، لغزو أوكرانيا بإدانة كل الروس، فجميعنا مسؤولون عن الجرائم التي ترتكبها حكومة بوتين، وجميعنا نستحق اللوم.

في تبليسي، دخل زميل من قناة Dozhd سيارة أجرة وألقى التحية على السائق باللغة لروسية، وأعقب ذلك محادثة قصيرة باللغة الإنكليزية: «روسي؟»... «أجل»... «وداعا».

على نحو مماثل، عندما كنت مؤخرا ضيفة في برنامج حواري تلفزيوني للشباب الجورجي، قالت لي إحدى المضيفات المراهقات إن الروس الذين يصلون إلى جورجيا يحسنون صُـنعا بالذهاب إلى ساحة الحرية في وسط مدينة تبليسي والإعلان بصوت عال عن دعمهم لأوكرانيا، قالت: «أنا شخصيا، لن أخدم الروس في مقهى حتى يُـعـرِبوا عن موقفهم من بوتين».

بِـغُـصة في حلقي، غمغمت بكلمات حول حقوق الإنسان والديموقراطية، وأنه من غير الجائز اعتبار «الروس جميعا كواحد»، وأننا لا نمثل بوتين، لكن المناقشة لم تستمر.

كيف تأتي للغرب أن يرفض أمة كاملة؟ إن منع، أو بعبارة أكثر شيوعا، «إلغاء» 145 مليون روسي لهو طريقة شديدة التبسيط للخروج من الوضع الحالي، وإن ما يفعله بوتين في أوكرانيا مأساة، ففي كل يوم نرى صورا تُـدمي الفؤاد لمدن أوكرانية مُـدَمَّرة كليا، وجثثا ملقاة في الشوارع، وأطفالا جرحى فقدوا أذرعهم وسيقانهم، وعندما قرأت أن القوات الروسية قتلت رضيعة تبلغ من العمر ثلاثة أشهر وأمها في أوديسا، غمرني شعور بالغضب العاجز، يجب محاسبة المسؤولين عن كل هذا.

أفادت تقارير صادرة عن منظمي استطلاعات مستقلين في مركز ليفادا أن 83% من الروس يوافقون على تصرفات بوتين، وبطبيعة الحال، سيقول الرجل العادي الساخط في الغرب: «بالطبع يوافقون، فالروس يحملون في جيناتهم النزعة الإمبريالية وشهوة سفك الدماء، وهم يحبون الحكام الطغاة المستبدين، ألم يختاروا بوتين؟ دعهم إذاً يدفعون الثمن، ارفضوا منح الروس تأشيرات الدخول، وجمدوا حساباتهم المصرفية، وامنعوهم من الالتحاق بالجامعات المرموقة. لا تسمحوا لهم بدخول دار الأوبرا لا سكالا، استبعدوهم من بطولة ويمبلدون، فلتصبح روسيا مثل كوريا الشمالية، ولننس أن ذلك المكان كان له وجود».

لكن من المستحيل أن نصدق استطلاعات رأي أجريت في ظل نظام دكتاتوري، حتى لو أجريت بنزاهة واقتدار، فالخائفون المذعورون لا يجيبون عن الأسئلة بصدق، ونحن لا نعرف عدد الروس الذين يدعمون بوتين حقا، فما نعرفه عن يقين هو أنه خلال 22 عاما قضاها في السلطة، دمر إمكانية الاختيار عن طريق سجن خصومه أو نفي منافسيه وتحويل الانتخابات إلى مهزلة.

ربما يكون بوسع التاريخ الحديث أن يشير إلى الطريق إلى استجابة غربية مختلفة للشعب الروسي، وفي عام 2008، غزت روسيا جورجيا، وكانت تلك الحرب أقصر كثيراً- استمرت خمسة أيام فقط- وأسفرت عن احتلال روسيا 20% من أرض جورجيا، وقد توسط الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي لعقد محادثات وقف إطلاق النار، ورغم أن روسيا لم تف بالتزاماتها بموجب الاتفاق الذي أُبـرِم نتيجة للمحادثات، فإن فرنسا لم تشعر حتى بالإهانة، وسرعان ما نسيت الديموقراطيات الغربية الأخرى الواقعة.

من المفيد أن نتذكر أيضا التدابير اللاحقة التي اتخذها رئيس جورجيا آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي، وعلى الرغم من كونه واحدا من أكثر منتقدي بوتين صلابة (أطلق عليه ذات مرة المسمى المستهين الزعيم الروسي ليليبوتين)، ألغى ساكاشفيلي نظام التأشيرات الجورجي للمواطنين الروس بعد ثلاث سنوات ونصف من الحرب، وقال: «لن نغلق الحدود أبدا في وجه رجال الأعمال والسياح الروس، لأنه حيثما تنشط الأعمال لا يوجد مكان لجنازير الدبابات.

على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين جورجيا وروسيا حتى الآن، فإن قرار ساكاشفيلي يعني أن عشرات الآلاف من الروس وجدوا اليوم الملاذ في بلد قصفته الطائرات الروسية قبل 14 عاما، لكن من منظور كثيرين من أهل جورجيا، لا تزال صدمة ذلك العدوان والاحتلال باقية، وهم يتعاملون مع غزو بوتين لأوكرانيا على أنه حرب ثانية ضدهم، وهو ما يفسر جزئيا المشاعر المعادية للروس هنا.

دعونا نأمل أن يتمكن الغرب من تبني نهج أقل عاطفية ورفض المنطق الفاسد لفكرة الذنب الجمعي، فبدلا من»إلغاء«جميع الروس، بمن فيهم أولئك الذين أجبرتهم معارضتهم لبوتين على الفرار من ديارهم، ينبغي للمسؤولين الغربيين أن يعكفوا على إتمام مهمة استهداف موارد، وسمعة، وفرص المسؤولين حقا عن هذه الكارثة.

*إيكاترينا كوتريكادزه

* مُـراسِـلة ومذيعة أخبار في القناة التلفزيونية الروسية المستقلة التي أُغـلِـقَـت مؤخرا، Dozhd.

Project Syndicate