لم أتوقع يوماً أن أتبنى هذا الموقف، لكن يجب أن يعود «رجال دافوس» إلى الواجهة!استعمل العالِم السياسي صامويل ب. هنتنغتون مصطلح «رجال دافوس» في عام 2004 للإشارة إلى النُخَب العابرة للحدود التي «تزداد قوة بفعل المفاهيم الجديدة حول الترابط العالمي»، إنها الأطراف التي كانت تحضر المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا سنوياً.
طوال عقود، كان منتدى دافوس تجسيداً لمركزية العولمة المفرطة، لكن بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على تأسيس هذه القمة، يحتاج العالم اليوم إلى تلك القوى المحورية مجدداً، بغض النظر عن شكلها، لأن النظام الدولي أصبح معرّضاً للانهيار، ولا يزال منتدى دافوس، رغم جميع مشاكله السابقة، يهدف إلى حماية هذا النظام الدولي، ويتابع عدد كبير من أصحاب المليارات الهبوط فوق ذلك الجبل الساحر بطائراتهم الخاصة، ويدفعون رسم الدخول الذي تصل قيمته إلى 29 ألف دولار، لكن لا تقتصر مهمة دافوس على جني الأموال، بل يشكّل هذا المنتدى الذي يمتد على أسبوع نقطة التقاء للقادة السياسيين ورؤساء أهم المنظمات الدولية، إنها أجواء مناسبة لعقد شراكات بين القطاعَين العام والخاص لتأمين التمويل اللازم للمشاريع الصديقة للبيئة، وتحديد كيفية التعامل مع الجرائم الإلكترونية، والاستعداد للأوبئة المقبلة، ومعالجة مسائل مُلحّة أخرى.لكن المنتدى في هذا العصر أصبح مكاناً يجتمع فيه مؤيدو سياسة التعاون الدولي ويبحثون عن الطرق المناسبة للحفاظ على ما تبقى من مظاهر العولمة، ولم يتبقَ منها الكثير.نقص واضح في حس القيادة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، تكثّفت نشاطات القوى الدافعة للشعبوية والقومية التي مهّدت في العقد الماضي لصعود دونالد ترامب، وإقرار خطة «بريكست»، وظهور حكام مستبدين جدد حول العالم، وفي الوقت نفسه، بدأت المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، تخسر أهميتها ولا أحد يتدخل لتغيير الوضع، فثمة نقص واضح في حس القيادة: حاول الرئيس الأميركي جو بايدن أن يسترجع دور بلده القيادي من واشنطن، لكن أُعيقت جهوده بسبب مقاربته شبه الحمائية في مجال التجارة أو نهج ترامب المرتبط بشعار «أميركا أولاً في ثياب حِمْلان»، كما قال الخبيران التجاريان نيكولاس لامب وجينيفر هيلمان حديثاً خلال حدث من تنظيم مجلس العلاقات التجارية، وفي غضون ذلك بدأت تتشكّل كتل تجارية جديدة، وتباطأت تدفقات الرساميل والاستثمارات عبر الحدود، ويسود «انقسام في قطاعات السلع والتكنولوجيا وأسواق العمل»، كما ذكر تقرير جديد صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.سيكون منع تفكك العالم من أكثر المسائل إلحاحاً في منتدى دافوس وأماكن أخرى، وقبل أيام كتبت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، في تقييم مشترك مع غيتا غوبيناث وجايلا بازارباسي أوغلو: «نحن أمام خيار واضح: الاستسلام لقوى التقسيم الجغرافي والاقتصادي وجعل عالمنا أكثر فقراً وخطورة، أو تعديل طريقة التعاون بيننا».يحاول الكثيرون تحديد المخاطر المطروحة ويلجأ البعض أحياناً إلى طرق غريبة ومبالغ فيها، فيوم الثلاثاء قبل الماضي، ألقى أمين عام الناتو، ينس ستولتنبرغ، كلمة خلال المنتدى الاقتصادي العالمي، فقال إن «الحرية أهم من التجارة الحرّة» و«حماية قِيَمنا أهم من جني الأرباح»، وقد يؤدي اقتصاد الحرب القاتم إلى وقوع اضطرابات مضاعفة قريباً، ويُصِرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على متابعة الغزو، وقد بدأ الآن يمنع تصدير الحبوب من أوكرانيا ويُهدد بتأجيج أزمة غذائية عالمية، إنه التحذير الذي أطلقته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، خلال خطابها في دافوس أيضاً. لكن يبدو أن هذه الخطوة الروسية تدخل في خانة الرد الانتقامي على الحظر الأوروبي المتوقع للنفط الروسي خلال الأيام المقبلة.
حشد الحلفاء
لا شك أن القوى المجتمعة في دافوس سبّبت جزءاً من هذه المشاكل، لا سيما حين أساءت قراءة عدد كبير من هذه النزعات العالمية في العقود الأخيرة، لكن في خضم أي حرب شاملة، تبرز الحاجة إلى حشد أكبر عدد ممكن من الحلفاء، بما في ذلك الأطراف البغيضة، فنحن نخوض حرباً عالمية محتدمة لضمان تفوّق التكامل على الاكتفاء الذاتي، ويبقى منتدى دافوس رمزاً دائماً للتكامل رغم جميع شوائبه، وعملياً يستطيع المواطنون المؤيدون للعولمة أن يستعملوا هذا المنتدى بكل حرية لمناقشة مسائل شائكة لا يستطيعون التطرق إليها في بلدانهم بسبب السياسات الشعبوية هناك.بدأت أصوات جديدة ومعارِضة تتصاعد في دافوس أيضاً، أبرزهم خبير الاقتصاد التقدمي جوزيف ستيغليتز الفائز بجائزة نوبل، حيث يقول إن هدف المنتدى الأصلي والمثالي يرتبط برأسمالية أصحاب المصلحة، وهو لا يزال في متناول اليد، وفي عام 2011، شارك ستيغليتز في ابتكار فكرة «بنك التنمية الجديد» في دافوس لتأمين الأموال اللازمة لمشاريع التنمية المستدامة في الاقتصادات الناشئة، فالمفارقة تكمن في مشاركة روسيا بقيادة بوتين في تأسيس ذلك البنك، إلى جانب البرازيل، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، لكن علّق «بنك التنمية الجديد» الآن تعامله مع موسكو، وأنتج اجتماع دافوس أيضاً جماعات معارِضة أخرى، منها تحالف اللقاحات وأصحاب الملايين الوطنيين، «غافي»، الذي يدعو إلى زيادة الضرائب على الأثرياء، كذلك، أطلق المنتدى الاقتصادي العالمي والولايات المتحدة في السنة الماضية تحالف «المحركون الأولون» للتشجيع على شراء التقنيات الخضراء، وقد زاد هذا التحالف عدد شركاته المساهِمة من أكثر من 30 إلى 55.يتعرّض أصحاب المليارات للصدّ اليوم، بدرجة معينة على الأقل، رغم زيادة أعدادهم أكثر من أي وقت مضى (نتيجة تفاقم أزمات الغذاء والطاقة، ساهمت جائحة كورونا في ظهور ملياردير جديد كل 30 ساعة، وقد يواجه مليون شخص الفقر المدقع بالوتيرة نفسها في عام 2022، وفق تقرير جديد صادر عن اتحاد «أوكسفام» الدولي).منذ ثلاث سنوات فقط، حصد المؤرخ الهولندي، روتغر بريغمان، شعبية واسعة حين اعتبر حضور منتدى دافوس أشبه بالمشاركة في مؤتمر عن رجال الإطفاء لكن من دون السماح لأحد بالتكلم عن المياه، كان يُلمِح حينها إلى موضوع التهرب الضريبي، ثم دعا بريغمان أصحاب المليارات إلى وقف أعمالهم الخيرية المزعومة ودفع حصّتهم من الضرائب بكل بساطة.فرض ضرائب عالمية جديدة
اليوم، أصبح هذا الموضوع محط نقاش أخيراً في دافوس ومنتديات أخرى، ولو بدرجة معيّنة، وبدأت الحكومات تدرك ما يحصل، حيث يبذل بايدن وعشرات القادة في العالم قصارى جهدهم لفرض ضرائب عالمية جديدة على الشركات وكبح لعبة التهرب الضريبي، وفي الوقت نفسه بدأت مواصفات «رجل دافوس» تتغير مع مرور كل سنة، فهو لم يعد بالضرورة رجلاً أو أبيض البشرة أو غربياً.غالباً ما تبدو المواضيع الرسمية المنبثقة من منتدى دافوس مزعجة، لكن يحمل شعار «العمل معاً لاستعادة الثقة» هذه السنة معنىً صائباً ومتواضعاً على الأقل، فيختلف هذا المفهوم مثلاً عن الشعارات المبهرجة في الماضي، مثل «التحول العظيم: تشكيل نماذج جديدة» (2012)، و«العولمة 4.0: تشكيل هندسة عالمية جديدة في عصر الثورة الصناعية الرابعة» (2019).لكن يظن بعض المراقبين أن منتدى دافوس لا يزال يحتل المكانة نفسها على طاولة الفاسدين، وكما يحصل سنوياً، أصدر اتحاد «أوكسفام» أحدث تقرير له بعنوان «الاستفادة من الألم»، وتوصّل فيه إلى استنتاج دقيق مفاده أن جائحة «كوفيد19» كانت واحدة من «أفضل المراحل التي عاشها أصحاب المليارات في التاريخ المكتوب»، مع أنها سبّبت أضراراً كبرى للعمال العاديين، كذلك، كرر بيتر س. غودمان معظم الانتقادات المألوفة حول هذا الموضوع في أحدث مقالة لاذعة له، بعنوان «رجال دافوس: كيف التهم أصحاب المليارات العالم». كان ازدراء غودمان لهذه الفئة من الناس مهيناً لدرجة أن يعتبر «أبناء دافوس» جزءاً من «فصيلة» مختلفة، ويكتب غودمان في كتابه الجديد أن «رجل دافوس» «كائن نادر ولافت: إنه شخص مفترس لا يكف عن مهاجمة الآخر بلا رادع، ويحاول دوماً توسيع أراضيه والاستيلاء على قوت الآخرين، تزامناً مع حماية نفسه من الانتقام عبر ادعاء صداقته مع الجميع».هذا التقييم مبالغ فيه طبعاً، إذ يغفل غودمان أيضاً عن اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم لأن المشاكل التي يُسببها أصحاب المليارات المتأنقون والمتغطرسون لم تعد من أكبر انشغالاتنا على الأرجح، وفي الوقت الراهن، أصبح بوتين المفترس الحقيقي الذي يهاجم الجميع بلا رادع، وبمساعدة دول تتابع التعامل معه، يحتاج منتدى دافوس إلى وقتٍ طويل قبل أن ينفذ وعوده بإرساء المساواة الاقتصادية، وغالباً ما يبالغ في التركيز على الأزمات المستجدة (هو ينشغل راهناً بأوكرانيا مع أن الكوارث الحاصلة في مجال حقوق الإنسان في دول مثل أفغانستان واليمن تتفاقم مع مرور الأيام)، لكن تدعم معظم النُخَب في دافوس الحق على الأقل، رغم قصر نظرها في الماضي.* مايكل هيرش