تعجّ الحرب الروسية في أوكرانيا بالمفارقات، حيث يُصِرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه يحارب بلداً يطغى عليه النازيون، لكن يشمل ملايين الأوكرانيين الذين هربوا من الهجوم الروسي 78 ناجياً من محرقة اليهود، وقد تم إجلاؤهم إلى ألمانيا، فقد نجت فاندا أوبيدكوفا (91 عاماً) من الاحتلال الألماني لمدينة «ماريوبول» في الحرب العالمية الثانية، لكنها عادت وقُتِلت خلال الحصار الروسي للمدينة نفسها في 2022، وفي «خاركيف»، قُتِل بوريس رومانشينكو (96 عاماً) بعد سقوط قذيفة روسية على المبنى الذي يقيم فيه، علماً أنه كان قد نجا من معسكر اعتقال «بوخنفالد» في الماضي، وخلال الحرب العالمية الثانية أيضاً، كان الجندي الأوكراني إيفان ليسون واحداً من الجنود السوفيات الذين شاركوا في تحرير بيلاروسيا وبولندا من النازيين، لكن تدمّر منزله اليوم في «خاركيف» على يد الجيش الروسي.أصبحت تجارب هؤلاء الأشخاص جزءاً من عالم الكرملين المليء بالمفارقات: انقلب مسار التاريخ في هذا العالم رأساً على عقب، فبعد ثلاثة أشهر تقريباً على بدء أعمال العنف القاتلة، يجد النظام الروسي صعوبة في العثور على رموز إيجابية ومتماسكة لوصف «عمليته الخاصة» في أوكرانيا، فهو لم يُلْقِ القبض على أي نازي (مع أن مجلس الدوما يضع المقاتلين المعتقلين من «كتيبة آزوف» الأوكرانية في هذه الخانة)، حتى أنه فشل في اختراع سبب واضح لتبرير ما يفعله، لكنه أغرق بلداً كاملاً في عالم خيالي حيث تحمل الأقوال والأفعال معاني متناقضة، فعلى سبيل المثال ابتكر نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن الروسي، مفهوم «الفاشية الليبرالية»، حتى أن ماريا زاخاروفا، المتحدثة الأسطورية باسم وزارة الخارجية الروسية، تقول اليوم إن كتاب 1984 بقلم جورج أورويل كان يتمحور حول الحضارة الغربية، كذلك يواجه نظام بوتين راهناً تحدياً أكثر خطورة: كيف يمكن تخيّل أي شكل من النصر في حربٍ أوصلت البلد إلى شفير الكارثة؟
في استطلاع أجراه «مركز ليفادا» في شهر مارس الماضي، أعلن 81% من الروس دعمهم «للعملية الخاصة» الروسية، ثم تراجعت هذه النسبة إلى 74% بحلول شهر أبريل كذلك، واستقرت نِسَب تأييد بوتين وانخفض مستوى الثقة به بدرجة بسيطة، لكن بما أن أحداً لا يعرف العوامل التي تُحدد معنى النصر، يقول 73% من المشاركين إنهم يظنون أن روسيا ستنتصر، وفي المقابل، لا يظن الكثيرون أن أوكرانيا قادرة على الفوز، مع أن 15% من المشاركين يتوقعون ألا يتفوق أي طرف منهما.تثبت هذه الأرقام نشوء شكلٍ من التوازن مع مرور الوقت، ويفضّل مناصرو بوتين العدائيون حتى الآن تكثيف الحملة العسكرية من جانب الجيش الروسي للاستيلاء على أوكرانيا، فيتجاهلون بذلك أهداف العملية المعلنة، مع أنها لا تكفّ عن التغير، ومن ناحية أخرى قد يتقبل الروس الذين يشككون بوجهة الحرب أو يقلقون من مسارها في هذه المرحلة خيار عقد السلام، لكن اعتبر أكثر من ثلثَي المشاركين في استطلاع «مركز ليفادا» أن العملية تسير على طريق النجاح، مع أن 50% منهم أعطوا جواباً مبهماً واعتبروا الحملة «ناجحة إلى حد كبير»، وحين طُلِب من المشاركين تعريف معنى النجاح، كرر معظمهم الشعارات المملة حول تماشي جميع التطورات مع العمليات المُخطط لها وتحرير الأراضي من الفاشيين والعصابات، وفي المقابل لم يعتبر 17% من المشاركين هذه العملية ناجحة، وينسب جزء كبير منهم السبب إلى طبيعة الحملة العسكرية المطوّلة وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا وسط المدنيين والأولاد في أوكرانيا وفي صفوف الجنود الروس.لكن يلوم معظم الروس الولايات المتحدة وحلف الناتو على هذه الحرب، بغض النظر عن مستوى نجاحها، وتقتصر نسبة من يلومون روسيا على 7%، لكن حتى هذا التجاهل المقصود للوقائع لا ينسف جميع الشكوك الكامنة: يقول 82% من المشاركين في الاستطلاع إنهم يشعرون بالقلق من الأحداث في أوكرانيا، ويتعلق سبب قلقهم في معظم الحالات بمظاهر الموت والمعاناة والدمار هناك (46%)، أو بفكرة الحرب بحد ذاتها (26%)، ويكشف سؤال غير مباشر آخر مستوى المخاوف العاطفية والنفسية التي يحملها الروس إزاء ما أصاب بلدهم منذ شهر فبراير، رغم حملة التلقين المستمرة من وسائل الإعلام الرسمية والدولة الروسية.من المستبعد أن يدرك بوتين إلى أي حد تأثّر مستوى الدعم الذي يحظى به وسط أشرس مناصريه، إذ يتخبّط هؤلاء لتبرير هذا الكابوس المستمر، فقد سبق ولاحظ علماء النفس الروس زيادة سريعة في إصابات القلق المزمن والاكتئاب ونوبات الهلع، كذلك بدأ اصطدام الروس المتكرر بالواقع يجبرهم على التخلي عن الشعارات المريحة التي تنشرها حملة بوتين الدعائية.أصبحت الحرب جزءاً مألوفاً من الحياة اليومية، لكنها تعكس جانباً مُحبِطاً يتمنى الناس زواله في أسرع وقت، ويتوق الكثيرون إلى استرجاع حياتهم الطبيعية السابقة، لكن يبدو أن الوضع الطبيعي الجديد لن يتلاشى، ولا يدرك الناس أيضاً أن هذا الوضع ليس طبيعياً بأي شكل، لكنه سيستمر خلال السنوات المقبلة، فلا أحد يشكّ في تحقيق النصر، لكن لا ترتكز هذه القناعة على الوقائع بل على شكل من التخدير الذاتي.في «يوم النصر»، نتذكر أنا وعائلتي دوماً أشخاصاً من أيام الحرب: جدّة زوجتي، ماريا شاتيلوفا، التي كانت مراسلة تغطّي أحداث الحرب من الخطوط الأمامية؛ وخالي إدوارد تروب الذي تطوع للمشاركة في القتال وقُتِل عن عمر 18 عاماً خلال «معركة كورسك» في 1943 (إنها أكبر معركة دبابات في التاريخ، وهزم السوفيات حينها نحو مليون جندي تابع لأدولف هتلر)؛ وجدّي إيفان كوليسنيكوف الذي عاد إلى دياره من الحرب بعدما قاتل إلى جانب «فرقة حرس لاتفيا رقم 43» التي حررت «ريغا»، وحين أصرّ بوتين على تشبيه أحداث 2022 بحقبة الحرب في 1945، افتعل بذلك مواقف أكثر تعقيداً تجاه ذكرى التحرير السوفياتي للاتفيا: قرر البرلمان في لاتفيا الآن هدم النصب التذكاري الخاص بالمحررين بعدما شيّده السوفيات خلال الثمانينيات.كجزءٍ من جهود ترسيخ العقيدة «البوتينية» لدى الشباب الروس، كانت المدارس الروسية تطلب من الأولاد لسنوات أن يكتبوا رسائل من جبهة القتال أو يرسلوها إلى المقاتلين هناك، وكأنهم جزء من تلك الحرب، وحين طُلِب من ابنتي في المدرسة المتوسطة أن تكتب رسالة من الجبهة بدلاً من جدّها، اقترحتُ عليها أن تتكلم بصوت والد جدّها، ديفيد تروب، الذي نُقِل إلى معتقل «جولاج» في أقصى الشمال الروسي لتنفيذ «نشاطات مضادة للثورة».لكن لا يُفترض أن نتذكر هؤلاء الأشخاص في روسيا اليوم، فهم لا يناسبون معايير بوتين، ولهذا السبب، قرر نظامه قبل بدء «العملية الخاصة» تدمير Memorial، أهم منظمة مدنية في البلد: تقع هذه المنظمة غير الحكومية في موسكو، وهي تبذل قصارى جهدها للحفاظ على ذكريات القمع خلال عهد ستالين، لكنّ تدمير هذا التاريخ عبر إغلاق مقر المنظمة في نهاية 2021 سهّل اتخاذ تدابير أخرى من هذا النوع في 2022، فقد مهّدت هذه الخطوة مثلاً لإطلاق «العملية الخاصة» في أوكرانيا واستُبدِلت ذاكرتنا الجماعية بتاريخ وهمي ومفبرك.تشمل عائلتي أشخاصاً وقعوا ضحية جميع المآسي السوفياتية في القرن الماضي: الحرب العالمية الثانية، وحصار لينينغراد، وحملات ستالين القمعية محلياً. لا أحد يستطيع تجريد عائلتي أو عائلات روسية كثيرة أخرى من هذه الذكريات، لقد أعاد بوتين وأعوانه إحياء مشاعر الخوف والخطر في روسيا، فوجدنا أنفسنا مجدداً عالقين في شرك التاريخ رغم محاولات طمسه، كان والداي الراحلان يقدّران الانتصار الذي تحقق على النازيين لأقصى حد، لكننا نتفوه الآن بالعبارة المريعة التالية: «الحمدلله أنهما لم يعيشا لرؤية ما يحصل اليوم».جاء بوتين ليقلب كل شيء رأساً على عقب، لقد دمّر جميع الإنجازات المُحققة في العقود الأخيرة، بما في ذلك إنجازاته الخاصة، حتى أنه حقّق أهدافاً معاكسة لغاياته المعلنة: بدل نزع سلاح أوكرانيا، جعل البلد يتسلّح بدرجة غير مسبوقة، وبدل إبعاد حلف الناتو، جعله أقرب إلى حدود روسيا، وبدل استرجاع العظمة الروسية الغابرة، أغرق البلد وشعبه في عزلة تامة، وعندما حاول بوتين فرض نسخته الخاصة من تاريخ روسيا، لم يُحقق شيئاً باستثناء تجريد البلد من تاريخه الحقيقي، فحرمه بذلك من مستقبله أيضاً، وهكذا وصلت روسيا اليوم إلى أخطر طريق مسدود في تاريخها.* أندريه كوليسنيكوف
دوليات
فلاديمير بوتين ينقلب على تاريخ بلده
10-06-2022