واصلت الأسهم الأميركية تراجعها مثيرة حالة من القلق الكبير في كل البورصات العالمية، بعدما أغلقت كل القطاعات الرئيسية في مؤشر «إس آند بي 500» على خسائر حادة، أمس، بما يثير التساؤل حول ما إذا كانت السوق الأميركية ستواصل المنحنى المتراجع حاليًا أم أن هناك «ارتدادا» متوقعا أو ممكنا للسوق.

وأنهى «ستاندرد آند بورز 500» التعاملات منخفضا بنسبة 3.85 في المئة، بينما هبط مؤشر «ناسداك» 4.65 في المئة، وأصاب هذا التراجع الكثير من المتعاملين بالقلق من استمرار السوق الهابط، لاسيما في ظل تخطي هذا الهبوط لتوقعات المراقبين بتراجع طفيف في السوق، بعد أن كان الأسبوع الماضي الأسوأ منذ 6 أشهر.

Ad

تضخم قائم وركود محتمل

ويعود السبب الرئيس وراء تراجع السوق للمخاوف من سقوط الاقتصاد الأميركي في حالة من الركود التضخمي، مع بلوغ التضخم مستوى 8.6 في المئة القياسي في مايو الفائت، والمخاوف من الركود بدأت في الزيادة مع توقع إقرار المركزي الأميركي لرفع الفائدة الأربعاء المقبل بنسبة نصف في المئة، بل وتكهنات أخرى أثارت القلق باحتمال رفع الفائدة 0.75 في المئة في اجتماع هذا الأسبوع.

ومنذ قمته في الثالث من يناير الماضي فقد مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» أكثر من 20 في المئة من قيمته، أي أن السوق الأميركية خسرت قرابة 9.3 تريليونات دولار في تراجع حاد يؤكد المخاوف من سيطرة السوق الهابط على الأسهم الأميركية في المرحلة الحالية والمستقبلية.

ولتوضيح مدى قوة هذا التراجع يكفي الإشارة إلى أن الأسهم الأميركية خسرت 9.8 تريليونات دولار بفعل فيروس كورونا في 2020، والذي يعده الاقتصاديون بمنزلة «قوة قاهرة» يصعب التنبؤ بها، وبالتالي يكون الرد عليها مصحوبًا بـ»بيع الهلع» الذي يصعب السيطرة عليه، كما أن التراجع قد ينعكس فور زوال «القوة القاهرة»، أما الآن فهي تطورات اقتصادية سلبية، لكنها ليست في مصاف «القوة القاهرة».

وللمزيد من التوضيح فإن خسارة السوق الأميركية منذ يناير الماضي تخطت بالفعل خسارتها إبان الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2009 بحوالي 1.2 تريليون دولار، بما يعطي ملمحًا واضحًا عن مخاوف المتعاملين من تكرار أزمة مالية عميقة تشبه، وربما تتخطى الأزمة المالية العالمية.

تخارج لحساب السندات والفائدة العالية وبناء على ذلك يرى المراقبون أن الكثير من المستثمرين قرروا الانسحاب من السوق ولو بشكل مؤقت وتسييل أصولهم من الأسهم، رغبة في الانتظار إلى حين اتضاح الأمور في السوق في أعقاب قرارات الفدرالي الأميركي، مما تسبب في التراجع الحاد أمس.

كما أن الارتفاع في سعر الفائدة على الدولار، وتوقع ارتفاعه الأربعاء واستمرار ارتفاعه حتى نهاية العام دفع الكثير من المستثمرين، ولاسيما هؤلاء حديثي العهد بالسوق، إلى تفضيل الاحتفاظ بأموالهم في الصورة السائلة (بمنطق الادخار) وتجنب مخاطرة الاستثمار في ظل توافر «بديل» آخر في ظل فائدة مرتفعة.

كما شكل ارتفاع مستوى الفائدة على السندات الأميركية إلى 3.371 في المئة، وهو مستوى قياسي منذ 11 عامًا أيضا بديلا للكثير من المستثمرين الذين يفضلون تجنب الحالة الضبابية التي تكتنف الأسواق في الوقت الحالي.

وجاء صدور البيانات المحبطة للتضخم الأميركي لتدفع السوق للمزيد من الهبوط، فبجانب تأكيدها لاتجاه رفع الفائدة في الوقت الحالي، إلا أنها أكدت أن تكهنات 85 في المئة من الأميركيين حول الركود المتوقع بسبب استمرار رفع سعر الفائدة قد تكون تقديرات منطقية.

تهدئة للمحرك أم إطفاؤه

وكثيرا ما يشير خبراء الاقتصاد إلى أن الركود من بين الظواهر التي قد تحدث أحيانا أو قد تتعزز احتمالات حدوثها بفعل توقعها. فبمجرد توقع الركود يبدأ كثيرون في تقليل نفقاتهم على السلع «غير المهمة»، خشية انخفاض مداخيلهم مستقبلًا، وبالتالي يسهمون بشكل مباشر في زيادة احتمالات الركود أو يزيدون حدته إن كان قائما.

وما يدعم ذلك هو هبوط مؤشر ثقة المستهلك الأميركي إلى 50.2 نقطة، بينما كان المؤشر نفسه عند مستوى 85 نقطة قبل عام من الآن، ومع صدور بيانات ثقة المستهلك بدا أن احتمالات الركود في الولايات المتحدة –والتي يتوقع كثيرون أن تكون قبل منتصف العام المقبل- ممكنة بشدة، وبدأت الأسواق في التحوط لها.

ولذلك تعاني الصناعات التكنولوجية بصورة أكبر من غيرها، لأنها الأكثر تأثرًا بالحالة العامة للاقتصاد، بما يجعل أسهمها تتأثر صعودًا وهبوطًا مع الرواج والكساد، ولاشك أن التضخم واحتمالات الكساد، فضلا عن الأزمات القائمة المتعلقة بسلاسل التوريد تفرض حالة من التشاؤم حول مستقبل تلك الشركات.

و«تحوط» السوق ضد التحركات الأميركية في السوق لم يظهر فقط في سوق الأسهم بل حتى في الـ «بتكوين» التي تراجعت 14 في المئة إلى أقل سعر لها منذ 18 شهرًا، وذلك أيضا مع تراجع مؤسسة «سيلسوس» الأميركية المالية لاعتبار تلك العملات بمثابة ضامن للقروض.

ويبدو أن السوق الأميركية ستستمر في التراجع تحت سيطرة «الدببة»، حتى إن شهدت بعض الصعود في جلسة أو يوم فإن ذلك سيكون بفعل نتائج استثنائية لشركات مؤثرة، أو بفعل عمليات المضاربة، ولكن بشكل عام يبدو أن الاتجاه الهابط للسوق سيظل مهيمنًا لاسيما إذا حدثت «مفاجآت» في أي من اجتماعات الفدرالي المقبلة بزيادة الفائدة بأكثر من نصف في المئة في أي منها.

وتقول «تايم» الأميركية إن البنك الفدرالي في موقف صعب، فمن جهة هو يرغب في تهدئة حرارة المحرك (بمعنى تخفيض نسبة التضخم) ولكنه لا يرغب في إطفاء المحرك تمامًا (بالوقوع في الركود)، لأن إعادة تشغيله تستلزم جهدًا كبيرًا.