حين كان صوت أحمد سعيد «يلعلع» في سماء العروبة
بحث الدكتورة النشيطة نور محمد الحبشي بعنوان «إذاعة صوت العرب ودعم الفكر الناصري في منطقة الخليج» أعادني إلى أيام النكسة في 5 حزيران (يونيو) عام 1967، يومها كنت أعمل في مجلة «الحوادث» اللبنانية لصاحبها الأستاذ سليم اللوزي، وكانت تتخذ من منطقة كورنيش المزرعة في بيروت مقراً لها، وفي حينه توزع الزملاء في صالة التحرير التي تعلوها صورة لجمال عبدالناصر إلى مجموعتين: الأولى بقيادة إلياس سحاب، وهم يستمعون على مدار الساعة إلى صوت أحمد سعيد، من إذاعة «صوت العرب» يتلو البيانات العسكرية بصوته الجهوري، وقوله إن طائرات العدو تتساقط كالعصافير في الوقت الذي كانت فيه الطائرات العسكرية المصرية تتهاوى على المدارج دون أن تتمكن حتى من الإقلاع! لأنهم كانوا ينتظرون العدو من الشرق فجاءهم من الغرب! وكلما كانوا يستمعون إلى بيان عسكري جديد سارعوا إلى التصفيق والتهليل وبصوت عال، أما المجموعة الثانية والمنزوية في آخر الصالة فيتزعمها رسام الكاريكاتير نيازي جلول وكنت إلى جانبه ومعه نشنف آذاننا وبصمت إلى إذاعة الـ(بي بي سي)، «هنا لندن» والتي كانت أخبارها تأتينا كالصدمة وعدم التصديق! المهم في اليوم التاسع من يونيو 1967 خرجت الجماهير إلى الشوارع العربية ومنها الشارع البيروتي والعاملون في مجلة «الحوادث» يرفعون صورة جمال عبدالناصر التي نزعوها من صالة التحرير ولم تعد بعدها إلى مكانها، وهم يطالبون بعودة عبدالناصر عن الاستقالة. لم يمض على تلك الواقعة سوى أشهر حتى استدار سليم اللوزي بتوجهاته السياسية نحو المعسكر الغربي، وبدأ سلسلة من الانتقادات والمراجعات الجريئة للمرحلة الناصرية وبالأخص لدور أحمد سعيد الذي ارتسم في أذهان ملايين المستمعين العرب بأنه كان صورة مطابقة للنهج الناصري وبشعارات سقطت منذ اليوم الأول من حرب 5 حزيران (يونيو) 1967 وبقي اسمه مرسوماً في الذاكرة. ما قدمته د. نور الحبشي كان عملاً جيداً سلطت فيه الضوء على تلك المرحلة المفصلية من تاريخ مصر والعرب واختارت «الكويت نموذجاً» تقول في بحثها وبتصرف:
«كان المد القومي العربي علامة فارقة في الكويت منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن المنصرم، فكانت خطابات الرئيس جمال عبدالناصر تلقى قبولا ورواجاً هنا، وكان الكويتيون كغيرهم من العرب يدعمون مصر في مواجهة العدوان الثلاثي عليها عام 1956م، وعلى الرغم من أن الرئيس جمال عبدالناصر لم يقم بزيارة أي إمارة من إمارات الخليج العربي عدا مروره الخاطف بالبحرين في طريق عودته من باندونغ ومن بعد ذلك زيارته إلى الظهران في شرق المملكة العربية السعودية على أثر أحداث السويس. وكان لإذاعة صوت العرب اللاعب الأساسي في تلك المعادلة السياسية دور كبير واستثنائي في جعل مصر والرئيس جمال عبدالناصر نجوم المرحلة، فكانت الإذاعة موجهة للشباب، وكانت حملاتها الدعائية لمواجهة الإنكليز والصدام معهم بشكل ملحوظ، ورغم أن الكويت تتمتع بمعاهدة الحماية الموقعة مع بريطانيا منذ عام 1899م فإن إذاعة صوت العرب استطاعت، بل نجحت في أن تعبر الحدود الجغرافية، وأن تصل لكل العرب من المحيط إلى الخليج وهي تدعو إلى طرد الاستعمار بأشكاله المتعددة واستقطاب العناصر الوطنية، بحيث تتوافق رؤاها مع أفكار عبدالناصر التي ينادي بها، وكانت قضية فلسطين في المقدمة. عموما كانت الساحة الكويتية بيئة خصبة وقد استوعبت مضامين الخطابات والشعارات الرنانة التي تصدر عن إذاعة صوت العرب في القاهرة، لذا تم وضع خطة وبطلب من عبدالناصر نفسه لتأسيس إذاعة صوت العرب حيث كان ميلادها عام 1953م ومقر بثها في العاصمة المصرية، وباستهلال طاف أرجاء المنطقة مطلعه (أمجاد يا عرب أمجاد)، جرى تكليف ضابط المخابرات فتحي الديب بذلك ووضع لها تصورا كاملا. وقع الاختيار على المذيع أحمد سعيد وسمي البرنامج «صوت العرب»، لقد كانت خطة مخابراتية بامتياز دقيقة جدا لجذب المستمعين».