يعاني سكان المناطق الحضرية في الصين من تدابير وقائية تعد من بين أكثر الإجراءات صرامة فيما يتعلق بوقف انتشار عدوى كوفيد19، فلمدة 60 يوما متتالية، فُرضت إجراءات إغلاق صارمة على سكان «شنغهاي» البالغ عددهم 27 مليون نسمة، ولم يشمل الإغلاق هذه المدينة فقط، فخلال ذروة موجة Omicron BA.2 (أوميكرون بي إي.2)، في أبريل ومايو، خضعت 45 مدينة يقطنها ما معدله الإجمالي 373 مليون شخص لإجراءات الإغلاق نوعا ما، ويتجاوز هذا المعدل مجموع سكان الولايات المتحدة (329.5 مليون نسمة) وكندا (38 مليون نسمة) و83 في المئة من سكان الاتحاد الأوروبي (447 مليون نسمة).

وأحدثت استراتيجية «صفر كوفيد» التي اعتمدتها الصين اضطرابا أضر باقتصادها وشعبها، ولكن موجة «أوميكرون» سلطت الضوء أيضا على استمرار تعرض السكان المسنين للإصابة بالفيروس، واعتبارا من 2 يونيو لم يتلق 40 في المئة من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 60 عاما- ما يقارب 95 مليون شخص- جرعاتهم من لقاح كوفيد19، على الرغم من أنهم أكثر عرضة للإصابة بمرض حاد والوفاة بسبب الوباء.

Ad

إن أحد أسباب انخفاض معدل التطعيم هو ببساطة أن السكان الصينيين تعودوا على المعدلات المنخفضة لعدوى كوفيد19 على مدار العامين الماضيين، والآن بعد أن ظهرت موجة «أوميكرون»، من المفترض أن يؤدي ارتفاع خطر عدم التطعيم إلى زيادة التطعيم بين كبار السن إلى حد ما.

ومع ذلك، هناك سبب آخر يفسر انخفاض معدل التطعيم في فئة كبار السن، وهو أن الكثيرين يخافون من آثاره الجانبية، ولمواجهة ذلك قدمت الحكومة الصينية مؤخرا حزمة تأمين لقاح كوفيد19 للأفراد الذين تزيد أعمارهم على 60 عاما، إذ يحصل متلقو اللقاح الذين يصابون فعلا بمرض ما 75000 دولار، أي أكثر من أربعة أضعاف متوسط الدخل السنوي للبلاد (15950 دولارا)، وهذه فكرة ذكية، لكنها لن تكفي، لأن العقبة الكبرى هي انعدام الثقة بين المواطنين الصينيين والمؤسسة الطبية.

ومن المؤكد أن جميع البلدان واجهت صعوبات في إقناع السكان المعنيين بأن فوائد اللقاحات تفوق مخاطرها، ففي الولايات المتحدة، لا يزال 15 في المئة من الأشخاص غير محصنين ضد كوفيد19؛ ويقول 42 في المئة من هذه المجموعة أنهم لا يثقون باللقاحات، ومع ذلك يعد هذا تحسنا هائلا مقارنة مع ما كان عليه الوضع في سبتمبر 2020، عندما قال 49 في المئة من البالغين الأميركيين إنهم لن يأخذوا اللقاح حتى لو توافرت منه جرعة واحدة فقط، وأشار76 في المئة من هذه المجموعة خلال استطلاع للرأي إلى مخاوفهم بشأن آثار اللقاح الجانبية.

ومن ثم، فإن السكان الصينيين والأميركيين ممن يقاومون اللقاحات يتقاسمون الخوف من الآثار الجانبية للقاح كوفيد19، ولكن المؤسسات الطبية الصينية والأميركية استجابت لهذه المخاوف بطرق مختلفة للغاية.

وفي الولايات المتحدة، حاولت المؤسسة الطبية بناء الثقة من خلال إجراء تجارب طبية مستقلة وشفافة، تنشر نتائجها في منشورات غير خاضعة للرقابة، وتخضع لمداولات مفتوحة على جميع المستويات من قبل الخبراء، والصحافيين، والسياسيين، وعامة الناس، ويعتمد هذا النهج على مبدأين من مبادئ الصحة العامة معروفين على نطاق واسع: الثقة في المؤسسة الطبية ستزيد استيعاب العلاجات؛ وتبنى هذه الثقة من خلال الشفافية والمداولات المفتوحة.

وفي المقابل، كاد أن يكون نهج الصين غامضا تماما، إذ أصدرت الحكومة بيانات محدودة للغاية بشأن تجارب اللقاح، وفرضت رقابة على جميع المناقشات بشأن آثاره الجانبية، حتى البسيطة منها مثل الألم الناتج عن الحقن، واتبعت السلطات الصينية المبدأ القائل بوجوب حجب المعلومات المتعلقة بالموضوعات المثيرة للجدل لمنع بث الآراء التي قد تتعارض مع أهداف الحكومة.

وأثبتت هذه الاستراتيجية أنها تأتي بنتائج عكسية، لأنها تخلق فراغا في المعلومات لا يمكن ملؤه إلا بالإشاعات، والتكهنات، ونظريات المؤامرة، ويتناقض الفشل الحالي تناقضا حادا مع نجاح الصين السابق في اتخاذ القرارات التداولية بشأن السياسة الصحية، فبعد ظهور«السارس» في أبريل من عام 2002، سمحت الصين بإجراء نقاش بناء بشأن المشاكل التي يواجهها نظامها الصحي، وكما لاحظ الكثيرون، لم يكن لدى أكثر من 80 في المئة من سكان الريف، و40 في المئة من سكان الحضر تأمين صحي من أي نوع في ذلك الوقت.

وردا على ذلك، أعلنت الحكومة عام 2009 أنها ستستثمر 850 مليار يوان (127 مليار دولار بسعر الصرف اليوم) لتوفير تغطية صحية لـ90 في المئة من السكان، وفي غضون عامين بعد ذلك، أجريت مناقشات مكثفة بين صانعي السياسات الوطنيين والإقليميين وخبراء الصحة وقادة المجتمع والصحافيين وعامة الناس، وأدت المداولات إلى العديد من التعديلات في السياسة المقترحة، وعلى الرغم من أن المنتج النهائي لم يكن مثاليا، فإنه أثبت شعبيته، وأدى إلى اعتماد التأمين الصحي على نطاق واسع، وبحلول عام 2021، كان 95 في المئة من الصينيين يتمتعون بنوع من التغطية الصحية.

وبالطبع، يجب أن تكون المداولات بشأن لقاحات كوفيد19 أسرع؛ ولن تكون بدون تكلفة، وقد تثير اللقاحات الصينية الانتقادات؛ وسيظل بعض الناس غير مكترثين لأخذ اللقاح بسبب آثاره الجانبية الشائعة (مثل الحمى)، أو المخاطر النادرة (مثل ردود الفعل التحسسية)، وقد ينتقد آخرون طريقة تعامل الحكومة مع الوباء إذا أتيحت لهم الفرصة.

ولكن هذه التكاليف قصيرة المدى تستحق فوائد طويلة الأجل، تتمثل في بناء الثقة في سلطات الصحة العامة، وزيادة معدلات التطعيم بمرور الوقت، وخلصت دول أخرى إلى أن الكشف عن معلومات سلبية بشأن اللقاحات قد يزيد عزوف عامة الناس عن التلقيح على المدى القصير، لكنه يساعد في الحفاظ على الثقة وإحباط نظريات المؤامرة.

إن التصدي الفعال لكوفيد19 يتطلب المحاسبة على المدى الطويل، نظرا لارتفاع احتمالية حدوث موجات في المستقبل، والحاجة إلى جولات إضافية من اللقاحات، وبالنسبة للصين، يعد بناء الثقة أمرا بالغ الأهمية، بل بقدر أكبر من الدول الأخرى؛ لأنه خطوة ضرورية للابتعاد عن استراتيجية «صفر كوفيد». وسيؤدي هذا التحول بطبيعة الحال إلى المزيد من الإصابات والوفيات، ولكن المداولات المفتوحة بشأن اللقاحات يمكن أن تزيد امتصاصها، وتساعد في الحد من انتشار المرض، ومواجهة التأثير السلبي على ثقة الناس.

إن الصين بحاجة ماسة إلى اعتماد الشفافية في هذه القضية، وكلما انتظرت طويلا زادت صعوبة التخلي عن سياسة «صفر كوفيد» المدمرة اقتصاديا.

* أستاذة الاقتصاد الإداري وعلوم القرار في كلية «كيلوغ» للإدارة بجامعة «نورث وسترن»، وهي المديرة المؤسسة لمختبر الصين الاقتصادي، ومختبر نورث وسترن الصيني، وتقود مبادرة كيلوغ لاقتصادات التنمية.

* نانسي تشيان

● نانسي تشيان - بروجيكت سنديكيت