في 1 يونيو 1996، وصل قطاران إلى روسيا وهما يحملان آخر رؤوس حربية نووية استُعمِلت في أوكرانيا عند انهيار الاتحاد السوفياتي، وهكذا انتهت العملية التي أسفرت عن تخلي كييف عن ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم (كانت تتفوق حينها على ترسانات بريطانيا وفرنسا والصين مُجتمعةً)، وأقدمت الحكومة الأوكرانية على هذه الخطوة لأنها تلقّت تطمينات من روسيا التي تعهدت باحترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها والامتناع عن استعمال القوة ضدها.بعد مرور 26 سنة، أطلقت روسيا غزواً واسع النطاق ضد أوكرانيا ولا يزال الهجوم مستمراً منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وهذا ما دفع الأوكرانيين إلى التشكيك في صوابية التخلي عن تلك الأسلحة النووية، حتى أن حرب فلاديمير بوتين قد تُضعِف أي جهود مستقبلية لكبح الانتشار النووي.
حين انهار الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991، كانت أوكرانيا تملك نحو 4400 رأس حربي نووي على أراضيها، فضلاً عن صواريخ بالستية عابرة للقارات من طراز (SS-19) و(SS-24) وقاذفات «بلاك جاك» و «بير» لقذف الرؤوس الحربية الاستراتيجية، فسارعت روسيا إلى تنظيم نقل الأسلحة الأوكرانية غير الاستراتيجية إلى أراضيها، وانتهت هذه العملية في مايو 1992، لكن البلد احتفظ بالأسلحة الاستراتيجية.كانت حكومة أوكرانيا التي نالت استقلالها حديثاً تميل حينها إلى التخلي عن أسلحتها النووية، فذكرت أوكرانيا في إعلان استقلالها، في يوليو 1990، أنها لن تتقبّل الأسلحة النووية أو تنتجها أو تشتريها، لكن المسؤولين الأوكرانيين طرحوا عدداً من الأسئلة الشائكة قبل الموافقة على التخلي عن الأسلحة نهائياً.تفاوض المسؤولون الأوكرانيون والروس حول قنوات ثنائية لمعالجة المسائل العالقة بين عامي 1992 و1993، وحرصوا على إبلاغ المسؤولين الأميركيين بآخر المستجدات لأن كييف كانت تأمل أن تشارك الولايات المتحدة في تقديم الضمانات أو التطمينات الأمنية أيضاً. وافقت واشنطن على هذه الخطوة لكنها أصرّت على استعمال كلمة «تطمينات» بدل «ضمانات»، لأن الضمانات تشير إلى الالتزام باستعمال القوة العسكرية، ولم يكن المسؤولون الأميركيون مستعدين لاتخاذ هذه الخطوة عند انتهاك سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها.في سبتمبر 1993، أعلن الطرفان أن المسائل المرتبطة بنقل الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية إلى روسيا للتخلص منها أصبحت قيد الحل، غداة اجتماع بين الرئيس الأوكراني ليونيد كرافتشوك والرئيس الروسي بوريس يلتسين، لكن هذا الاتفاق انهار خلال أيام.خوفاً من عجز كييف وموسكو عن التوصل إلى اتفاق، قرر المسؤولون الأميركيون في المرحلة اللاحقة التدخل بطريقة مباشرة، فكانت الولايات المتحدة قلقة أيضاً من بدء تطبيق معاهدة «ستارت» بعدما صمّمتها الحكومة الروسية على أساس انضمام أوكرانيا إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية بصفتها دولة غير نووية، ورحّب المسؤولون الروس بالمشاركة الأميركية لأنهم أدركوا أن واشنطن تريد إخراج الأسلحة النووية من أوكرانيا مثلهم، كذلك رحّب المسؤولون الأوكرانيون بالدور الأميركي على اعتبار أنهم سيتلقون الدعم من الولايات المتحدة في مسائل معيّنة.غداة النقاشات الثلاثية في كييف، في منتصف ديسمبر 1993، توقّع المسؤولون الأميركيون إتمام المهمة خلال وقت قصير، ودعوا المسؤولين الأوكرانيين والروس إلى واشنطن في بداية يناير 1994، وأسفرت المفاوضات هناك عن بيان ثلاثي وقّع عليه كرافتشوك ويلتسين والرئيس الأميركي بيل كلينتون، في 14 يناير 1994، في موسكو.شمل البيان الثلاثي عدداً من النقاط الأساسية، منها التزام أوكرانيا بالانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية باعتبارها دولة غير نووية «في أقرب وقت ممكن»، والاتفاق على نقل الرؤوس الحربية النووية من أوكرانيا إلى روسيا، تزامناً مع تقديم التعويضات إلى أوكرانيا على شكل تجميعات من الوقود لمحطات الطاقة النووية، فضلاً عن التزام الولايات المتحدة بتقديم المساعدة إلى أوكرانيا للتخلص من أنظمة التسليم الاستراتيجية على أراضيها، بموجب بنود معاهدة «ستارت».ذكر البيان الثلاثي أيضاً ضمانات أمنية محددة يُفترض أن تقدّمها الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا إلى أوكرانيا بعد انضمامها إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وشملت تلك الضمانات التزامات باحترام استقلال وسيادة الحدود الأوكرانية، والامتناع عن استعمال القوة أو التهديد باستخدامها ضد أوكرانيا، وتكررت هذه الالتزامات لاحقاً في مذكرة بودابست للضمانات الأمنية، في ديسمبر 1994.بالإضافة إلى توقيع البيان الثلاثي، تبادل القادة الثلاثة رسائل سرية تعكس محتوى اتفاق كييف الذي ينص على نقل جميع الرؤوس الحربية المتبقية إلى روسيا للتخلص منها بحلول 1 يونيو 1996، وموافقة موسكو على تقديم التعويضات إلى أوكرانيا مقابل الرؤوس الحربية النووية غير الاستراتيجية التي تخلّص منها البلد.في فبراير 1994، اجتمع المسؤولون الروس والأوكرانيون واتفقوا على جداول زمنية لنقل الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية إلى روسيا وتسليم تجميعات الوقود إلى أوكرانيا، واتفق الطرفان أيضاً على التعويضات المخصصة لأوكرانيا (إعفاء البلد من الديون) مقابل قيمة اليورانيوم عالي التخصيب في الرؤوس الحربية النووية غير الاستراتيجية. بدأت أولى عمليات النقل بعد فترة قصيرة.في نوفمبر 1994، وافق البرلمان الأوكراني على آلية انضمامه إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وهذه الخطوة ساعدت كلينتون، ويلتسين، والرئيس الأوكراني المُنتخَب حديثاً ليونيد كوتشما، ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، على تقبّل أداة انضمام أوكرانيا إلى المعاهدة والتوقيع على مذكرة بودابست للضمانات الأمنية في 5 ديسمبر 1994، وأنهت أوكرانيا وروسيا نقل الرؤوس الحربية النووية وتجميعات الوقود بعد مرور سنة ونصف.لكن في فبراير 2014، استعملت روسيا بقيادة بوتين القوة العسكرية لسلب شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ثم ضمّتها إليها، وهو انتهاك فاضح لالتزاماتها الواردة في مذكرة بودابست، وفي مارس 2014، تورطت القوات الأمنية والعسكرية الروسية في صراع في إقليم «دونباس»، في شرق أوكرانيا، مما أسفر عن مقتل نحو 14 ألف شخص قبل فبراير 2022، حين أطلقت روسيا غزواً شاملاً لجارتها الغربية.لو احتفظت أوكرانيا بأسلحتها النووية، لما كانت علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأوروبا، ومنظمات مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، لتتطور بالشكل الذي حصل في آخر 25 سنة وكانت كييف ستواجه مشكلة هائلة مع موسكو، لكن لا مفر حينها من تغيّر الوقائع الكامنة وراء هذا الملف، ونتيجةً لذلك، من المبرر أن يراجع الأوكرانيون اليوم ما فعلوه ويشككوا بصوابية تخلّيهم عن الأسلحة النووية، فهل كانت روسيا ستتصرف كما فعلت في عامَي 2014 و2022 لو احتفظت أوكرانيا بجزءٍ من رؤوسها الحربية النووية؟ لا شك في أن خيانة روسيا لالتزاماتها الأمنية تجاه أوكرانيا (ولا ننسى وحشية الحرب التي أطلقها الجيش الروسي) ستدفع كييف إلى التردد قبل عقد أي اتفاق مستقبلي مع موسكو.في غضون ذلك، قدّمت واشنطن مساعدات عسكرية كبرى إلى أوكرانيا، بما في ذلك صواريخ مضادة للمدرعات، ومركبات مدرّعة، ومدفعيات ثقيلة، وكميات كبيرة من الذخائر، بما يتماشى مع وعود المسؤولين الأميركيين لنظرائهم الأوكرانيين عند التفاوض حول الضمانات الأمنية سابقاً، فقد فاقت قيمة حزمة المساعدات الـ4 مليارات ونصف المليار دولار منذ يناير 2021، وفي مايو 2022، مرّر الكونغرس الأميركي حزمة أخرى بمليارات الدولارات لتقديم المساعدات العسكرية والدعم الاقتصادي إلى كييف، كذلك تعاونت الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى لفرض عقوبات اقتصادية هائلة على روسيا.في مطلق الأحوال، تبقى الحرب كارثية على أوكرانيا التي شهدت سقوط آلاف الجنود والمدنيين وتكبدت خسائر مادية هائلة، لكن الحرب كانت كارثية أيضاً بالنسبة إلى روسيا التي خسرت آلاف الجنود ومن المنتظر أن تواجه اضطرابات اقتصادية فائقة بسبب العقوبات الغربية، تزامناً مع إعادة إحياء حلف الناتو واحتمال توسّع نطاقه قريباً.أخيراً، قد تصبح جهود منع الانتشار النووي ضحية أخرى لهذه الحرب، فقد أدى تجاهل روسيا الفاضح لالتزاماتها المبرمة مع أوكرانيا في عام 1994 إلى انهيار مصداقية الضمانات الأمنية الواردة في حملة منع الانتشار النووي، ولن ينسى المسؤولون عن اكتساب الأسلحة النووية أو التخلي عنها مستقبلاً ما فعلته روسيا، التي تملك أكبر ترسانة نووية في العالم، بأوكرانيا التي تخلّت عن ترسانتها.* ستيفن بايفر - نشرة «العلماء النوويين»
دوليات
خيانة بوتين لأوكرانيا قد تؤجّج الانتشار النووي
17-06-2022