طالت قائمة الممنوعات العربية لتصل إلى درجات تجعل الرقيب يستقر في قعر أدمغتنا، فيبدأ الكاتب حتى ذاك المشخبط بكتابة سطر ومحو عشرة أسطر حتى يتحول كلامه إلى شيء من الألغاز أو ربما تفقد كلماته بريقها ومعانيها كبقعة الماء بعد عاصفة ممطرة.قديما كان الرقيب هو الحاكم، أي النظام بكل أجهزته الأمنية، وكانت الرقابة على كلمات تمس ذاك النظام نفسه فقط، أما كل الأمور الأخرى فقلْ ما تشاء وامضِ!! أما الآن فأصبح الرقيب هو كل النظام لا جهاز واحد فيه، وكل المجتمع وكثير من العاملين في الحقل العام المدافعين عن حرية التعبير والمعتقد والجنس وغيرها من الحريات، ذاك في العلن طبعاً، وفي خطاباتهم اليومية واجتماعاتهم المكوكية المطولة وخاصة مع المانحين والقادمين من مدن الحريات يتحول الخطاب إلى ما يشبه الأغاني الممجوجة أو ترديد ما يحب أن يسمعه القادم المحمل بحقائب من مال وعسل!!
كثرت الممنوعات حتى لامست الحديث عن منظمات المجتمع المدني أو عن تعيين الشباب في المراكز القيادية والريادية حتى أصبح نقدهم شيئا من المحرمات والممنوعات، وخاف الجمع فاندثر، إما ليدافع عنهم أو للركن جنب الحائط!! يقوم صديقي اليوناني المحاضر في إحدى الجامعات العريقة بالبحث المعمق في عمل منظمات المجتمع المدني الأوروبية وخصوصا تلك العابرة للحدود والقارات والثقافات وكل الحواجز الأخرى، ويردد في دراساته أن ما تطالب به تلك المنظمات من شفافية للنظام وتوثيق ونشر لكل تفاصيل خططه... إلخ... إلخ، لا تقوم بالشيء نفسه ولا تطبقه على نفسها. هو الباحث المتعمق غير الخائف استطاع أن يستقطب كثيراً من الأكاديميين في جامعات أوروبية للقيام بأبحاث مماثلة والبحث عن كيفية تأثير هذه الجمعيات على التوجهات العامة ليس في بلد المنشأ فقط، بل في كل بلدان العالم الثالث أو الجنوبية الواقفة عند كل باب تتلقى الدعم المالي السخي من أجل ما يعرف بالقضايا التنموية السامية!!!وأما الشباب فأصابهم أيضاً ما أصاب منظمات المجتمع المدني من عطب وتقوم الدنيا ولا تقعد لو قلت عن أحدهم إنه لا يملك المعرفة أو الخبرة أو كيف تم اختياره؟ كما كانت حال المرأة في دولنا «العتيدة» عندما كثر انتقاد الدول «الكبرى» والمانحة والمنظمات الدولية بأن النساء لا تشارك في صناعة القرار، فما كان من حكوماتنا إلا أن أكثرت من الوجوه النسائية حتى بهتت الصور، فتحولت إلى ما يشبه الكريما على وجه الكعكة!!! بمعنى مزينات ومطيبات للوجبة الحكومية، وانتقل الاتجاه نفسه إلى الشباب حتى يفرح بعضهم ويطبل ويكاد يرقص «العرضة» لكثرة الوجوه النسائية والشبابية في حكومات تبدو جديدة وهي كالزيت القديم في أوانٍ وقوارير جديدة!!! ألا يبدو مثل تمجيد كهذا لكل امرأة مسؤولة أو كل شاب فقط نسبة لجنسها أو عدد سنين عمره أو عمرها؟ كلما جاءت حكومة جديدة طبل المطبلون وحملة الأختام الإعلامية لها، وهم يرددون بفرح سمج «انظروا عدد النساء» أو «حكومة جديدة شابة»، فيكفي أن تكون امرأة أو شابا أو شابة لتصبح قادراً على صنع المعجزات في نظر «بعضهم» أو ربما هكذا يرش الرماد في العيون الغارقة في البحث عن حل ليس «بندوليا» مسكنا فقط، بعيداً عن الحلول الجذرية الحقيقية لمشاكل تراكمت على مر العصور من حكومات جامدة لم يكن عيبها الوحيد أنها ليست شابة بل كونها بعيدة عن معايير الكفاءة وباقية على معيار الولاء لا غير، أو ربما فقط الخنوع وقلة الحيلة!!أصبح أي شاب قادم بشهادة جامعية عليا- يجب أن تكون أوروبية أو أميركية طبعا- هوالشاب «السوبرمان» القادر على فعل أي شيء وكل شيء، فلا يضر أن يجلس وزيرا للبيئة وهو متخصص في هندسة البترول أو وزيرا للتجارة وهو صاحب مؤسسات وشركات كبرى، أو... أو... فلا سؤال عن الكفاءة ولا حتى عن تضارب المصالح!! أحيانا نتمنى أن يخفف الشباب من غرورهم حتى يصبح المتنبي أو أينشتاين مجرد لاعبين صغار بالنسبة لهم وأن تتوقف منظمات المجتمع المدني عن التصور أنها معصومة من أمراض الأنظمة أو الحكومات أو الشركات الخاصة الكبرى. المجتمعات المريضة لا تخلق بشراً أصحاء، وكذلك المنظمات، فبعضٌ من التواضع وكثير من المحاسبة والرقابة وتقبل النقد والرحمة للبشر الذين أتقنوا الصمت أو ربما تصوروا أن حديثهم على السوشال ميديا هو صرخة مدوية!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
كثرت المحرمات حتى تعبنا
20-06-2022