بعد انتظار لأكثر من شهر على إعلان نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية واعتبار الحكومة مستقيلة حكماً، وبعد انتهاء زيارة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين الذي لفت (بتعجب) إلى وحدة الموقف السياسي بشأن ترسيم الحدود البحرية، حدّد رئيس الجمهورية اللبنانية 23 من الشهر الجاري موعداً لانعقاد الاستشارات النيابية الإلزامية لتسمية الرئيس المكلف بتشكيل حكومة جديدة للبلاد. ومع تحديد الموعد المرتقب لاختيار الشخصية السنية التي يجب دستورياً أن تحوز على أكبر عدد من أصوات النواب، تفتح رسمياً بورصة الترشيح لرئاسة الحكومة، في حين تشي الأصداء الخارجة من الكواليس الرئاسية والسياسية أن الرئيس ميقاتي هو الأوفر حظاً من بين المرشحين غير الجديين الذين يتم تداول أسمائهم من قبيل «الزكزكة» السياسية.
وبذلك يتوقع اكتمال مثلث «الترويكا» الرئاسية- القديمة المتجددة- بانضمام الرئيس ميقاتي الى كل من الرئيسين عون وبرّي في الاتفاق الضمني على تمرير الوقت في الشهور القليلة المتبقية من عمر العهد بأقل التكاليف السياسية والاقتصادية وأخف الأضرار العسكرية والأمنية، مما يعني أن المشهد السياسي اللبناني سيبقى على ما هو عليه إن لم يصبح أسوأ، أي- بالتعبير الكويتي- «على طْمَام المرحوم»!وكنتيجة منطقية للتوازنات السياسية التي رسمت معالمها الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي نتج عنها تراجع في الحجم التمثيلي للأحزاب والشخصيات التقليدية لصالح قوى التغيير، من الراجح أن ينال الرئيس ميقاتي أكثرية نيابية ضعيفة لا تتجاوز في أفضل الأحوال سقف الأكثرية التي انتخبت الرئيس بري لرئاسة مجلس النواب، بما يؤكد التراجع الملحوظ في حجم التأييد لكلا الرئيسين، ولا سيما من الأحزاب المسيحية وجزء كبير من نواب الطائفة السنية.يجمع المراقبون أن معضلة التكليف ستكون أسهل بأشواط من مخاض التأليف، ذلك لأن الحكومة المرتقبة، وإن كانت بالمنطق الدستوري ستكون انتقالية وقصيرة الأجل، من المتوقع- بمنطق الأمر الواقع- أن تتولى صلاحيات رئيس الجمهورية في فترة الفراغ الرئاسي الذي تروّج له معظم الطبقة السياسية الحاكمة؛ مما يدفع كل طرف من الأطراف الى رفع سقف الشروط طمعاً بنيل حصة من هنا أو مكسب من هناك يشارك من خلاله في صنع القرار في مرحلة مليئة بالتحديات الاقتصادية والنفطية وطبعاً السياسية.ورغم ما أحدثه التغييريون من إرباك في قواعد اللعبة السياسية التقليدية، فلن يتفاجأ اللبنانيون بأن تسبق وتترافق خطوة التكليف مع ضغوط ومناورات يمارسها رئيس الجمهورية- ومن خلفه من مؤيدين وحلفاء- للتثبت من الخطوط العريضة لشكل الحكومة، وبرنامجها، وموقف رئيسها المرتقب من ثلاثية «الشعب والجيش والمقاومة» الملازمة لكل البيانات الوزارية التي تلت الانقسام العمودي ما بين قوى 8 و14 آذار 2005. يحاول رئيس الجمهورية في الأشهر القليلة من عهده أن يضمن قدر الإمكان مستقبلاً واعداً لوريثه السياسي، الوزير جبران باسيل، وأن يترك له ولتياره، المتراجع شعبياً، حضوراً ودوراً مؤثرين، وفي المقابل يجهد الرئيس بري وحزب الله أن تبقى للثنائي الشيعي الكلمة العليا في الملفات الحساسة الأساسية: كالسياسة الخارجية للحكومة اللبنانية، والعلاقة بالمؤسسات المانحة، وبالطبع ملف النفط والغاز والصراع المحتدم مع الكيان الصهيوني بشأنهما، أما الرئيس ميقاتي الذي تتحكم في طبائعه خصال التاجر الهادئ المحنّك، فلن يمانع أن يمضي وقته في «تدوير الزوايا» لقاء ما سيجنيه من بقائه في موقع الرئاسة الثالثة وما يحققه من طموحات.في المقابل سيقدم وليد جنبلاط كل التسهيلات العلنية لقاء اطمئنانه إلى استعادة دوره كـ«بيضة قبان» للتوازنات السياسية، في حين من المرجح أن ينقض سمير جعجع على تعلية سقف المطالبة بحصة وازنة وهو على أتم الاستعداد للهرولة إلى صفوف المعارضة الشرسة. وكأن الأزمات الاقتصادية والمالية غير المسبوقة، والانهيارات القياسية في قيمة الليرة اللبنانية، والتفكك الملحوظ لما تبقّى من هيكل ومؤسسات الدولة، غير كافية لردع شركاء الحكم عن ممارسة هوايتهم المفضلة ولتغيير سلوكهم المعتاد في التعطيل الممنهج والابتزاز المقرون باللا مبالاة لتحقيق المكاسب الشخصية والمصالح السياسية.لا شك أن العنوان العريض للمستقبل القريب هو الغموض، والسمة الأبرز لمقاربة الملفات الضاغطة هو الالتباس، ورهان من يشارك في مسرحية الحكم، حتى لا نقول في مؤامرة التحكم في مصير الشعب اللبناني، يرتكز على عنصرين رئيسين، واحد داخلي معتاد وآخر خارجي مستجد ومتجدد.فمع الصمت التاريخي لمعظم الشعب اللبناني واستساغة تكرار خطيئة اختيار القتلة والفاسدين كممثلين له، تبقى الطبقة السياسية مطمئنة الى وضعها مهما ارتكبت من موبقات ومهما قصّرت في الواجبات، أما على الصعيد الخارجي، فإن الملف السياسي اللبناني يتحكم فيه تقليدياً توازن القوى الدولية والإقليمية؛ فلمقاربة الدول الكبرى للملفين السوري والإيراني تأثيرها المباشر والحتمي على الواقع اللبناني، وللغاز والنفط المتوقع استخراجهما من الحوض الشرقي للبحر المتوسط القول الفصل في تهدئة أو إشعال الأوضاع عسكرياً، وفي التحكم في مصاير الشعوب اقتصادياً، وذلك في ظل السعي الغربي الدؤوب لتعويض جزء من إمدادات الطاقة الروسية التي فقدتها القارة العجوز وستفتقدها شعوبها في الشتاء القادم بعد أشهر.لبنان الغد ليس بأفضل من اليوم، ولكن مسار التغيير الإيجابي قد بدأ وعسى ألا يمتد طويلاً درب جلجلته.* كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
تعددت الأسماء والخيار واحد والمستقبل غامض!
21-06-2022