دور الأسلحة النووية في الحروب المعاصرة
غداة الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأ عدد متزايد من الأكاديميين والعلماء والمحللين يطرحون أسئلة قديمة حول الردع النووي، بعدما اعتادوا في آخر ثلاثة عقود على تراجع المخاطر النووية، لكن العاملين في هذا المجال الفرعي يعتبرون الاهتمام المتجدّد بهذا الموضوع مبرراً ومفاجئاً في آن.يعطي الردع النووي مفعوله حتى الآن، فهو الذي يدفع الولايات المتحدة وروسيا إلى ضبط النفس في طريقة تعاملهما مع الصراعات، فالردع النووي منع تصعيد الصراع الأخير بكل وضوح، رغم احتدام القتال الوحشي، وسقوط خسائر بشرية كبرى، وتزويد أوكرانيا بكميات هائلة من الأسلحة الغربية. إنه وضع إيجابي، لكن لا شيء يضمن استمراره، فمنع التصعيد يعني أن تتقبل الولايات المتحدة وحلف الناتو أن قدرتهما على التعامل مع الصراع تبقى محدودة أيضاً.نجح الردع النووي في احتواء الصراع الروسي الأوكراني بأفضل الطرق، فكان وجود الأسلحة النووية الروسية كفيلاً حتى الآن بمنع الولايات المتحدة من التدخل في الصراع مباشرةً، وهذا ما يُفترض أن يحصل. قد يكون التهديد بالتصعيد النووي مخيفاً جداً، لا سيما في نظر المعسكر الأميركي الذي لم يختبر يوماً أي شكل من القيود الخارجية التي تمنع استعمال القوة العسكرية الأميركية لدعم أهداف السياسة الخارجية المعلنة، حيث تملك روسيا الأسلحة النووية ويمكنها أن تقتل ملايين الناس خلال دقائق معدودة، وهذا الواقع يختلف بشدة عن الظروف التي مهّدت لغزو العراق أو إسقاط معمر القذافي. لقد أصبحت هذه القيود مُخيّبة للآمال برأي عدد كبير من داعمي توسيع التدخل الأميركي في أوكرانيا.
يدرك الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الواقع، وقد أوضح منذ بداية الصراع أنه لن يرسل قوات أميركية ميدانية إلى أوكرانيا، ورفض فرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا لأن هذه الخطوة تترافق مع إطلاق قتال مباشر بين قوات البلدَين، مما يعني اندلاع حرب عالمية ثالثة.في ظل تصاعد الشكوك والاضطرابات، يستطيع القادة أن يحاولوا استنتاج ما يفكر به المعسكر الآخر، ولتحقيق هذا الهدف تقضي طريقة فاعلة بسماع مواقف الخصم، ويسهل أن يتجاهل القادة تصريحات خصومهم وخطوطهم الحمراء ويعتبروها مجرّد محاولة للتلاعب بالآخرين خوفاً من تصعيد الوضع وخدمةً لمصالحهم السياسية الخاصة، وهذا الموقف هو جزء من خطابات الطرفَين، لكن يملك كل معسكر خطوطه الحمراء أيضاً، فقد يصبح تحديد الظروف التي تزيد المجازفات بدرجة فائقة لعبة حظ مثيرة للاهتمام. لكنّ الطابع المعقد والمخيف الذي تحمله هذه العملية لا يعني أن الردع النووي بدأ يفشل، بل إن استباق ردة الفعل الروسية على تكثيف الأسلحة الفتاكة التي تتلقاها أوكرانيا ليس شكلاً من «الردع الذاتي»، بل إنه نهج رادع بكل بساطة.يبقى احتمال أن يتدهور الوضع على نحو مريع ضرورياً كي يعطي الردع النووي مفعوله، وقد حقّق هذا السيناريو الهدف المطلوب في الصراع الأخير، ومن الواضح أن الردع النووي حقّق مبتغاه في هذه الحرب، فهو منع نشوب صراع مباشر بين قوتَين عظميين، مع أن كل قوة منهما كانت تملك أسباباً وجيهة لتصعيد الوضع، فقد لا توحي الظروف العامة بنجاح هذه المقاربة لأن الردع النووي الناجح يحمل طابعاً مُحبِطاً ومرعباً في آن، فهو نهج مُحبِط لأنه يحدّ من حرية التحرك في المعسكرَين، وهو مرعب لأنه قد يفشل بطريقة كارثية وغير متوقعة.ما يحصل ليس مصادفة بل إنه جزء من الآلية المستعملة للحفاظ على توازن الرعب، ولا يستطيع أحد أن يغيّر هذا الواقع أو يغفل عنه لدعم السياسات التي تتجاهل عمداً أي تهديدات حقيقية قد تُمهّد لاستخدام الأسلحة النووية، حيث تملك روسيا الوسائل اللازمة لاستعمال تلك الأسلحة، وقد فسّرت المواقف التي تدفعها إلى استخدامها، ولا يمكن أن يتوقع أحد ردة فعل القادة في تلك المرحلة، إذ يهدف الردع في الأساس إلى منع بلوغ تلك اللحظة الاختيارية، وقد نجح الطرفان في تحقيق هذا الهدف خلال الحرب الراهنة، حتى الآن على الأقل.