حين كان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مرشّحاً للرئاسة، أعلن خلال مناظرة متلفزة، في مايو 2021، أنه مستاء من المشاكل التي يواجهها الأولاد الإيرانيون حين يلعبون على الإنترنت بسبب سوء البنية التحتية الخاصة بالشبكة وضعف الإرسال في إيران، ثم قال إنه يخطط لتحسين خدمة الاتصال في حال انتخابه، حتى أنه أدلى بتعليقات مشابهة للتعبير عن استيائه من عزل طلاب الجامعات عن نظرائهم حول العالم بسبب سوء خدمات الإنترنت محلياً.

كان رئيسي يحاول طرح نفسه كسياسي يتفهم اهتمام فئة الشباب بتسهيل الاتصال بالإنترنت، فوفق معطيات البنك الدولي، يستعمل 84% من سكان إيران (85 مليون نسمة) هذه الشبكة، ويبرع الشباب الإيرانيون الحيويون في استخدام التكنولوجيا، ولا يكفون عن استعمال الإنترنت، ويتكلون عليها لتلبية جزء كبير من حاجاتهم اليومية ومواكبة التطورات في العالم الخارجي، لكن إيران تحتل المرتبة 113 عالمياً على مستوى سرعة الاتصال، فتتفوق عليها ليبيريا وبيلاروسيا والعراق لكنها تبقى متقدمة على الفلبين وإندونيسيا والأرجنتين.

Ad

لكن على عكس الوعود التي أطلقها رئيسي خلال حملته الانتخابية، عمدت إدارته إلى تضييق الخناق على مستخدمي الإنترنت الإيرانيين حين رفضت أن تطلب توسيع عرض النطاق الترددي رغم ارتفاع الطلب، مما أدى إلى تعطّل الشبكة محلياً في مناسبات متكررة.

زاد الوضع سوءاً حين بدأت إدارته تتعاون مع البرلمان المحافِظ لتمرير «مشروع قانون الحماية» الذي يُجرّم استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية التي تُستعمَل للتحايل على القيود المفروضة على المواقع الإلكترونية المحجوبة، حتى أنه قد يُجرّم نشاطات جميع مواقع التواصل الاجتماعي الأجنبية إلا إذا فتحت مكاتب تمثيلية لها في إيران.

يسود هلع تام وسط الرأي العام من احتمال إقرار ذلك القانون الذي يفتقر إلى الشعبية، لكنّ القيود المرتقبة ستكون مجرّد طبقة مضافة من الشلل الذي يعطّل شبكة الإنترنت الضعيفة أصلاً في إيران، فقد أصبحت معظم مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة محجوبة رسمياً، منها «فيسبوك»، و«تويتر»، و«يوتيوب»، و«تيك توك»، و«تلغرام»، وفي عام 2008، قيل إن الحكومة حجبت نحو 5 ملايين موقع إلكتروني، بما في ذلك المواقع الخاصة بصحف دولية، ومحطات البث التلفزيوني والإذاعي، ومنتديات النقاش، وخدمات تقاسم الصور، ولا يستطيع الإيرانيون أن يفتحوا المواقع المحجوبة إلا عبر الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN).

تكمن المفارقة في إقدام معظم السلطات العسكرية والحكومية العليا والنواب المحافظين الداعمين لمشروع قانون الحماية على استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية للحفاظ على حساباتهم عبر «تويتر» و«فيسبوك»، مع أن هذه الخطوة تنتهك تنظيمات الفضاء الإلكتروني المحلية، فهم يستعملون «تويتر» لتحذير الإيرانيين من فساد الإنترنت.

لكنّ أي قرار متهور بقطع الإنترنت نهائياً قد يكون كارثياً ويطلق موجة جديدة من الاضطرابات، وتدرك الحكومة الإيرانية على الأرجح أن فرض حظر كامل على الإنترنت قد يترافق مع تداعيات أمنية خطيرة ويُضعِف ما تبقى من مصداقيتها ومكانتها الدولية.

لكنّ نشاطات الإيرانيين عبر الإنترنت لن تتعطل بسبب تراجع الاستثمارات الحكومية والخاصة في البنى التحتية وسوء منشآت الاتصالات وضعف عرض النطاق الترددي فحسب، فلطالما في بلدٍ أيديولوجي بامتياز، حيث تُصِرّ الحكومة على فرض شكلٍ صارم من أسلوب الحياة الإسلامي على المواطنين منذ الثورة الإسلامية في عام 1979، أثبتت شبكة الإنترنت أنها تزيد أعباء الدولة بدل تعزيز فرصها، وأنها امتياز للمواطنين بدل أن تكون من حقوقهم الأساسية.

طوال سنوات، طغت النقاشات المرتبطة بضرورة تقديم نسخة «حلال» من الإنترنت للمستخدمين الإيرانيين (بهدف كبح وصولهم إلى الشبكة العالمية) على الأوساط العامة، ولم تقتصر هذه النزعة على الحكومة المدنية، بل امتدت أيضاً إلى الحرس الثوري الإيراني واتحاد مؤثر من رجال الدين المحافظين، حيث يدعم هؤلاء فرض القيود على استعمال الإنترنت.

لتحقيق هذه الغاية، أنفقت الحكومة الإيرانية نحو 660 مليون دولار لإنشاء «شبكة المعلومات الوطنية»: إنه مشروع إيراني لبناء شبكة داخلية تشمل محركات بحث إيرانية الصنع، وتطبيقات المراسلة الفورية، وخدمات البريد الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي، واعتبرها المحللون والسياسيون الداعمون للإصلاح نسخة من «جدار الحماية العظيم» في الصين وشبكة «كوانغميونغ» في كوريا الشمالية.

تبرر السلطات مساعي قمع الإنترنت على اعتبار أن «أعداء» البلد يستعملون هذه الشبكة للتسلل إلى إيران، وإفساد أسلوب حياة الشباب، وتهديد الأمن القومي.

لكنّ جوهر المشكلة مختلف: في مجتمع تتحكم فيه الدولة بتدفق المعلومات، ويمنع نشوء محطات بث خاصة، ويُهدد حرية الصحافة، تسمح شبكة الإنترنت للمواطنين بالوصول إلى مصادر معلومات بديلة، مما يمنحهم درجة من الشفافية ويُسهّل عليهم محاسبة السياسيين المحليين على استفحال الفساد وسوء الإدارة.

زاد الاستياء العام من وضع الاقتصاد الإيراني السيئ وتراجع الحريات المدنية نتيجة فكرة شائعة مفادها أن وسائل الإعلام التي تديرها الدولة، بفضل مواردها السخية وأموالها الوافرة، تميل إلى تجميل الوضع الراهن مع أن المجتمع يعاني ولا تزال العلاقات الخارجية مضطربة.

خلال السنة التقويمية الإيرانية الراهنة، بلغت الميزانية الحكومية المخصصة لإذاعة جمهورية إيران الإسلامية (تسيطر عليها الدولة وتحتكر إنتاج الوسائط المتعددة وبثّها) 176 مليون دولار، بالإضافة إلى ملايين الدولارات التي تكسبها محطاتها عبر الإعلانات الحصرية، لكن من بين 130 قناة تلفزيونية وإذاعية محلية ووطنية ودولية تديرها إذاعة جمهورية إيران الإسلامية وفائض اليد العاملة فيها (150 ألف موظف)، لا تستطيع أي قناة أن تقدم تقارير مستقلة ونقدية بما يتماشى مع حاجات الرأي العام.

في غضون ذلك، أصبحت الإنترنت بديلة عن الصحافة الحرّة رغم بطء عملها، فقد مكّنت المواطنين من استخدام هواتفهم لتسجيل الآفات الاجتماعية التي كانت لتبقى خفية من دونها، ولنشرها على أوسع نطاق عبر الشبكة، ولمناقشة المسائل الاقتصادية والسياسية الجدّية رغم منع أي نقاش مدني نقدي في البلاد، تتعدد الآفات التي يسجّلها الناس، منها التشرّد والفقر المدقع، وسوء معاملة اللاجئين الأفغان في الأماكن العامة، واستغلال السلطة من جانب الموظفين الحكوميين، ومضايقة النساء على يد الهيئات المتشددة بسبب أسلوب ملابسهنّ، وعنف الشرطة.

في الوقت نفسه، أصبحت الإنترنت بالنسبة إلى ملايين الشباب الإيرانيين وسيلة لاستكشاف العالم الخارجي، وجمع المعلومات حول أسلوب الحياة وراء الحدود الوطنية، وإقامة الصداقات في أماكن جغرافية غير مألوفة، والابتعاد عن المشاكل اليومية، لكن الشبكة تحوّلت أيضاً إلى أداة لتطوير المِهَن وجني المداخيل لآلاف المقاولين، والأكاديميين، والباحثين، والفنانين، ورجال الأعمال، والصحافيين، فقد باتت معيشتهم تتأثر بقوة الاتصال بالشبكة.

يصل عدد الشركات الإلكترونية التي تتكل على موقع «إنستغرام» في إيران إلى 1.7 مليون تقريباً، بمن في ذلك موردو الملابس، ومستحضرات التجميل، والأجهزة المنزلية، والبقالة، وفق إحصاءات مركز «بيتا» للأبحاث (معهد خاص لتحليل البيانات في طهران)، وتشير تقديرات المركز إلى دور الإنترنت المباشر في عمل ومعيشة 11 مليون إيراني على الأقل، بمن في ذلك 9 ملايين شخص يتكلون على «إنستغرام» وحده لإعالة أنفسهم.

لكن لا تهتم الحكومة بهذه الوقائع مطلقاً، فبالنسبة إلى السلطات الحاكمة في إيران، تبقى شبكة الإنترنت شوكة في خاصرتها لأنها تزيد قوة المواطنين وتُهدد سطوة السلطات على الحُكم.

لو أن الحكومة تتمتع بالذكاء الكافي، لكانت أدركت أن الإنترنت وسهولة النقاشات الحرّة عبر منصاتها هي التي تُعوّم المجتمع المدني حتى الآن، وأن إحباط الناس لا يتحول في جميع الحالات إلى مشاكل وانقسامات واضطرابات راسخة لأنهم يجدون منفذاً واحداً على الأقل للتعبير عن مشاعرهم.

إذا أصرّت الحكومة على حجب الإنترنت بشكلٍ دائم، فلا مفر من أن تغرق إيران في دوامة جديدة من الفوضى والخلافات.

ولن يرضخ الإيرانيون لمحاولات حرمانهم من حقهم بالتواصل مع العالم الخارجي، ولن يتقبلوا خسارتهم لورقة الضغط التي تمنحهم إياها مواقع التواصل الاجتماعي، ولن يدرس الطلاب الإيرانيون في أجواء تفصلهم عن الأوساط الأكاديمية الدولية، كذلك لا مفر من أن يحتجّ الصحافيون على منعهم من الوصول إلى الموارد الإلكترونية التي تسمح لهم بكتابة تقاريرهم، فقد يخسر البلد آلاف الأدمغة خلال أي موجة جديدة من الهجرة، حين يقرر رجال الأعمال والمهندسون والاختصاصيون والأكاديميون حزم أمتعتهم والرحيل من إيران بحثاً عن مكان يضمن لهم حقهم البسيط باستخدام الإنترنت، فضلاً عن الحقوق المدنية والسياسية الأخرى.

ما لم يقرر مجلس صيانة الدستور التدخل، وهو أمر مستبعد جداً، أو تدرك السلطات العليا المخاطر المطروحة وتمنع البرلمان من اتخاذ خطوات إضافية لإقرار القانون الشائك، فلا مفر من تنفيذ الإجراءات الجديدة وإطلاق جولة أخرى من المواجهات مع الشعب. كانت «الحركة الخضراء» في عام 2009 نتيجة لإصرار السلطات على التصدي للرأي العام الذي اقتنع بأن الحكومة تتجاهله وتحاول إسكاته، وسيكون حجب الإنترنت مرادفاً لتضحية الحكومة بنفسها، وزيادة الانقسامات في المجتمع الإيراني لأسباب أيديولوجية وسياسية وثقافية، وتسريع الأزمة الأمنية الخطيرة.

* كوروش زياباري

* كوروش زياباري - فورين بوليسي