لقد أثبتت الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة أن الامتعاض الشعبي الذي تبلورت بداياته بإطلاق حملة «طلعت ريحتكم» عام 2015 وبلغ ذروته في انتفاضة «17 تشرين/أكتوبر» 2019 مروراً بسلسلة الوقفات الاحتجاجية المختلفة، قد سجّل أكثر من 15 هدفاً تغييرياً ومستقلاً في مرمى مجلس النواب الـذي يتألف من 128 نائباً عادة ما يكونون جميعاً من ركّاب «محادل» و«حافلات» زعماء السلطة التقليديين. ولكن هل يعتبر هذا التغيير كافياً؟ وهل سيَسْلَم النواب التغييريون من محاولات التحبيط واتهامات التخوين؟ وهل موجة التأييد الشعبي الذي تُرجم باختيارهم ممثلين عن الناس ستبقى مرتفعة؟ أم أنها سترتد- تحت وطأة الكثير من المبررات والإغراءات- إلى حاضنة الأحزاب الطائفية والميليشياوية؟!
قبل الانتخابات النيابية لم يصدّق ولم يقتنع الكثيرون أن انتفاضة «17 تشرين/أكتوبر» سيتردد صداها على مقاعد المجلس النيابي الجديد، إضافة الى ذلك، تكاتفت الظروف الاقتصادية والصحية والأمنية مع الذهنية الانتقامية لأهل السلطة ليسود، خلال أعوام القحط الأخيرة، تساؤل سلبي عن مدى استفادة الشعب اللبناني من «الثورة» أو «الانتفاضة» الشعبية! الإجابة عن كل ما سبق من أسئلة وتشكيك واستفهامات كانت واضحة ومدوّية في نتائج الانتخابات النيابية، الأمر الذي سبقته عدة شواهد قد تحتاج لرفع الصدأ عنها، إنعاشاً لذاكرة المحبطين وتحصيناً للمشككين ورفعاً من معنويات الواهنين.لعل من أهم ما أنجزته انتفاضة الشعب اللبناني أنها كسرت حاجز الخوف من الأصنام التي لم يستطع أحد- لعقود طويلة- أن ينال من هيبة جبروتها من قبل، لا فعلاً ولا قولاً ولا كتابةً ولا حتى تفكيراً! فتبدّلت عقدة الخوف الشعبية من الزعيم أو الوزير أو النائب إلى خشية البارزين منهم من الوجود العلني في الأماكن العامة.الحالة العامة التي فرضتها انتفاضة «17 تشرين/أكتوبر» وما ارتبط بها من صحوة شعبية، لا سيما الشبابية، فرضت تغييراً متواضعاً- لكنه حقيقي ولافت- في تركيبة مجلس النواب، وذلك مؤشر مبشر على أنه إذا الشعب يوماً حقق الأسباب فإن القدر سيغدق عليه بالحصاد.ورغم قناعتنا بأن الحلم لم يتحقق بعد، وأن التغيير الفعلي لم ينجز، وأن كل ما تشهده الساحة اللبنانية من محاولات وخطوات إصلاحية ما هو إلا نقطة مضيئة في ليل دامس وطويل، من المهمّ التذكير أن الانتفاضة الشعبية- على اختلاف مجموعاتها ونخبها وشعاراتها العفوية- طرحت على بساط البحث الجدّي أفكاراً مهمة لم يكن مسموحاً أن تتم مناقشتها أو حتى تداولها إلا من قبيل التبجح الإعلامي أو المناوشات الكلامية المملة، ومن ذلك: تطوير النظام اللبناني نحو مزيد من الديموقراطية التمثيلية الحقيقية، والانتقال إلى دولة مدنية لا طائفية، وإقرار قانون استقلال القضاء وتحريره من التبعية السياسية، وفصل الوزارة عن النيابة، والمبادرة الى المحاسبة الحقيقية للفاسدين والقتلة، وكشف النقاب عن الاحتكارات وملاحقة المتورطين بجرائم الإثراء غير المشروع، وفتح النقاش القانوني حول جدوى وفاعلية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.وللتدليل على أن هذه الأفكار تحولت من شعارات إلى ممارسات لدى القادرين على تفعيلها، تجدر الملاحظة أن أياً من ناشطي «الحراك المدني» لم يقصّر، لا قضائياً ولا عملياً ولا إعلامياً، ببذل ما يستطيع من جهد للحد من تفشي الفساد أو الكشف عن المتآمرين ضد مصالح الناس. الأهم مما سبق أن فرقاء الطبقة السياسية «كلن يعني كلن» أنفسهم- وضمن النطاق الضيق لتحقيق مصالحهم أو لمحاولة الحد من تدهور شعبيتهم- قد امتطوا شعارات التغيير لتبرير محاربتهم لكل من يرون فيه خصماً أو عقبة أمام توجهاتهم المستقبلية، ومن ذلك نذكر، استقالة الرئيس سعد الحريري وانسحابه فيما بعد من الساحة السياسية على سند معلن من التجاوب مع مطالب «الثورة» والعجز عن إحداث «تغيير فعلي في المشهد السياسي والاقتصادي»، وكذلك الأمر فيما يخص ركوب «القوات اللبنانية» موجة «الثورة» وتنكّرها للسلطة التي شاركت فيها ولو بِخَفَر، ومن ذلك أيضاً اختصار شعار «الإصلاح والتغيير» لدى التيار الوطني الحر على حرب منظّمة وشرسة على المتورط حاكم مصرف لبنان بهدف «تغييره» رغم أنهم وافقوا منذ فترة قصيرة على تجديد ولايته، وربما بادروا الى ذلك! ولا ننسى محاولات «الثنائي الشيعي» دخول الانتخابات النيابية بمقاربات إصلاحية ومعيشية على أنقاض المقاربة التقليدية المبنية فقط على فكرة «الوفاء للمقاومة»... والعدّاد لن يتوقف عن تسجيل كمّ كبير من الخطابات والمحاولات والمزايدات التي سعى من خلالها المسببون أو المشاركون أو الساكتون عمّا آلت اليه الأمور للخروج من مأزق مسؤولياتهم بتبني نهج التغيير وربما الانتساب زوراً الى «الثورة» وتبني شعاراتها.واهِمٌ من يدّعي أن انتفاضة «17 تشرين/أكتوبر» استطاعت أن تفرز طروحات موحدة يتفق عليها كل من ثار لكرامته من أدنى لبنان الى أقصاه، ومخادع من لا يعترف أنها خلت من وجوه جديدة تحاول أن تمتطي صورة الزعيم النمطية المُغمّسة بوحول «الأنا» والمصابة بداء «النرجسية»، وجاهل من لا يدرك أن الغالبية العظمى من «خيم الثورة» أضاءت على كثير من المشاكل والإشكاليات دون أن تنجح في فرض الحلول الواقعية، وحالم كل من يعتقد أن نواب قوى التغيير سيملكون العصا السحرية التي من شأنها أن تقلب المعادلة، وأنهم- مع انتخابهم على أساس تمثيل مذهبي- باستطاعتهم التنكر لعرف التوزيع الطائفي في المناصب الرئاسية والإدارية. لا شك أن المجموعات والتشكيلات الثورية المختلفة، المنظّمة منها وغير المنظّمة، لم تستطع الحشد لترقى الى مصاف الأحزاب الجماهيرية، وقد فشلت الى حد بعيد بالتوحّد على خطوط عريضة متقاربة أو متطابقة تتسلح بها في الاستحقاقات الوطنية الأساسية، ومنها الانتخابات النيابية، لكن من يريد سلوك درب الثورة فلا بد أن يدرك أشواكه وآلام جلجلته الطويلة، ولا ينبغي له أن تثنيه الصعوبات، أو أن يحبطه فشل المحاولات، أو أن يركن الى نتيجة متواضعة حققها في مرحلة معينة أو في ظروف مناسبة، في حين يبقى أي إنجاز هامشياً أمام الهدف الأسمى المتمثّل في الوصول الى جمهورية جديدة عناوينها أبهى وأرقى من أن تذكر في عجالة.التغيير الكامل والحقيقي في لبنان يتطلب إصراراً غير منكفئ وإرادة غير متلكئة ومواجهة جديّة ومستمرة للسلطة المتجذرة وأدواتها المتمرسة، ويتطلب قبل كل شيء تغييراً جذرياً في مقاربة الشعب اللبناني للقضايا العامة، بما يشمل الإيمان بقدرته على التغيير والوقوف الى جانب النواب التغييريين لا في تبعية عمياء ولكن في اقتناع من موجباته المحاسبة دون مبالغة والمساندة دون استزلام.ليس من المنطقي أن نتوقع تغييراً عاجلاً وكاملاً من النواب التغييريين، ولكن الواجب أن نراقب أداءهم البرلماني، بشقيه التشريعي والرقابي، للتحقق من اختلافه عمّا عهدناه من النواب التقليديين، كما أنه ليس من المنصف أن نتتبعهم في كل قول أو تغريدة أو تصرف تفرضه عليهم الظروف أو تمليه عليهم قناعاتهم الخاصة، فنتسابق في جلدهم إن لم تكن على هوانا، ونتشارك في ذلك مع أهل السلطة وأتباعهم الساعين بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة الى تشويه صورتهم وإظهارهم كمتلونين أو متملقين أو فاشلين، مما يدفعهم ويدفع من معهم الى إحباط غير ممنون.* كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
أيها اللبنانيون: لا تنكروا التغيير ولا تتنكروا للتغييريين
26-06-2022