«أيام بين أحضان الجمال»... هذا أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أخط بيدي أولى الكلمات عن تلك الرحلة التي نفضت فيها عن كاهلي أغلال العمل وهموم الحياة وغبار معاركها التي لا تنتهي، حيث رأيت فيها بلاداً لا ككل البلاد، وأقواماً ليسوا ككل الأقوام، وحضارة وعلماً وعملاً وجمالاً لا يتكرر كثيراً... واحتراماً لما لديهم من طبيعة وجمال، إنه السحر بين أحضان القارة العجوز سناً، لكنها في ريعان الشباب تألقاً وحيوية ونضارة... وبالتحديد هذه المرة في إنترلاكن ودافوس بسويسرا عروس الألب وحاضرة التألق ولوحة الطبيعة المبهرة التي تزيدك جمالاً كلما زدتها نظراً.
رحلة قصيرة وجدتني فيها عقب سنوات أحكمت خلالها جائحة كورونا أغلالها على أيدي العالم وكبّلت شتى أنشطته، وران غبار الخوف من تداعياتها على قلوب سكان هذا الكوكب، استشرافاً لما قد ينكشف عن ضبابية المشهد المعقد، وما قد تحمله صفحات الغد من سطور لم نعد في حاجة إلى كبير ذكاء للتأكد من أنها ستكون في ذات الاتجاه.وسط هذا كله كانت الحاجة ملحة إلى رحلة في بحر الجمال على قارب من الخيال، ومجدافين من السكينة والتفرغ ولو قليلاً... فكانت هذه الرحلة. منذ استقلال الطائرة وشد الأحزمة ومطالعتك من حولك وما انهمك فيه كل منهم تاركاً لغيره مساحته الشخصية من الحرية تدرك أنك مقبل على تجربة مختلفة، فلم أشأ أن أضيع الوقت في تأمل الوجوه أو استخلاص معلومات، بل سبحت في بحيرة الهدوء بعين مفتوحة وذهن شارد مستلقياً على أنغام موسيقى هادئة تحمل إلى السمع كل برهة ما تحمله الموجة الهادئة إلى شاطئ جزيرة غير مأهولة.حتى وصلنا إلى هناك، وكانت البداية من إنترلاكن ملتقى البحيرات، والتي نجحت في أن تصبح واحدة من المدن السياحية الكبرى في سويسرا، بما تحمله على ملامح وجهها من قسمات الطبيعة الفاتنة، فضلاً عن أن فيها خط سكة حديدياً قديماً أنشئ منذ عام 1912 مما يسهل حركة التنقل بين الجبال، إلى جانب أجهزة التلفريك، والرحلات عبر القوارب والبواخر.ومن زحمة الأماكن الجميلة في تلك المدينة تحار بأيها تبدأ وبأيها تثني، فأمامك جبل هادر كولم الذي تصل إليه بالتلفريك لتشاهد المدينة من إحدى أعلى القمم.وأمامك رحلة قمة غرندلولد التي تستغرق ثلاث محطات بالتلفريك مستمتعاً بمشاهدة ما حولها من قمم، مع إمكانية أن تمارس رياضة هوائية كالقفز بالمظلات الهوائية، أو الهبوط لمسافة 800 متر، أو ركوب العربات المتحركة عبر السهول والأراضي الخضراء. ورأينا هناك اختيارات عديدة متاحة للتمتع بتلك المنطقة الرائعة عبر رحلات القوارب البخارية إلى الشلالات، والتجديف بالكاياك، والطيران الشراعي، إلى جانب الرحلات في الهواء الطلق، والسباحة، وغيرها من الأنشطة والرياضات الممتعة.ولا يمكنك أن تغادر إنترلاكن دون أن تأخذ إطلالة على شلالات تروميل باخ التي تستمد مياهها من ذوبان الثلوج على الجبال، حيث تلتقي 10 شلالات في التجويف الجبلي لتكون لوحة نادرة قلّ أن تجد مثيلاً لها، إلى جانب بحيرتي ثون وبيرنز. ويكفي أن نعلم أن مدينة صغيرة كهذه لا يتخطى عدد سكانها 5500 نسمة فقط، يقام بها سنوياً ما يتراوح بين 600 ألف ومليون ليلة سياحية، وفيها نحو 60 فندقاً.
البحيرة الزرقاء «بلو سي»
كانت إحدى الوجهات بحيرة «بلو سي» أو البحيرة الزرقاء التي تستقطب الكثير من السياح لاستكشاف جمالها الأسطوري والتعرف عليها، وبالفعل رأينا بأعيننا ما يجذب السياح من جمال ومراكب متنوعة ولون سماوي أخّاذ، وصفاء نادر.ويعود اسم البحيرة الزرقاء إلى لونها السماوي الجذاب، ويتم تغذيتها من نهر كاندر المشهور بغزارة مياهه، وهي تقع على بعد 211 كم من جنيف.دافوس
ومن إنترلاكن انتقلنا إلى دافوس، وهي مدينة رائعة كثيرة الأنشطة متعددة المناحي، فيمكن لزائرها أن يأخذ جولة في عربة الخيول بين السهول والأنهار، أو ركوب قطارها التاريخي الذي يتخطى عمره مئة عام ولا يزال يحتفظ بشكله القديم حيث ينطلق في رحلة تستغرق قرابة الساعة وصولاً إلى الجسر المعلق الذي يرجع تاريخه إلى أكثر من 150 عاماً، حيث تم إنشاؤه لربط سويسرا بإيطاليا، كما يمكنه أن يتسوق من محال الماركات الشهيرة.وتعدّ دافوس مركزاً للرياضات الشتوية، وتقام فيها بطولة سنوية لهوكي الجليد يستضيفها أحد الأندية المحلية لهذه اللعبة.وأياً كان تباين الأمزجة واختلاف الطبائع فإن من يزور تلك المنطقة سيجد لا محالة ما يريح أعصابه، ويطفئ حب استطلاعه، ويلبي متعته، ولا يمكن لمن يزور دافوس أن يفوتها لما تمثله من أهمية جمالية وثقافية ومعمارية، ومن أهم تلك المعالم:متحف الرياضات الشتوية
هو من أجمل متاحفها، فضلاً عما يوجد فيه من مجموعة متنوعة من المعدات- الشتوية، استناداً إلى ما تتمتع به المنطقة من شمس وثلج وتسلية وطبيعة خلابة ساحرة، وفيها تجد رياضة التزلج، كما أن فيها أكبر مسار تزلج عريض وطويل للمحترفين.دافوس... وشهرتها الاقتصادية
ترجع الشهرة الكبيرة لمدينة دافوس السويسرية إلى استضافتها السنوية للمنتدى الاقتصادي العالمي، وهو أحد أكبر الأحداث الاقتصادية العالمية التي تنعقد بصفة سنوية بهدف مناقشة الأوضاع التي شهدها العالم خلال عام مُنصرم، بالإضافة إلى أنه محاولة لوضع استراتيجية لما سيشهده العالم خلال عام مقبل.وبعد انقطاع استمر عامين بسبب «كورونا» عُقِد المؤتمر في مايو الماضي، على أن يقام في موعده المعتاد في يناير من كل عام.وخلال فترة هذا المنتدى في بداية كل عام يؤجر بعض سكان دافوس منازلهم للضيوف بعدما تضيق الفنادق عن استيعابهم.
بحيرة دافوس
ثم توجهنا إلى واحدة من أهم البحيرات الطبيعية الموجودة فى دافوس، وهي بحيرة مساحتها السطحية 0.59 كم2 ويبلغ عمقها 54 متراً، تقع عند الحدود الشمالية الشرقية للمدينة، وتستخدمها سويسرا مصدراً للطاقة الكهرومائية، وهي تصب من نهر الراين... إنها بحيرة دافوس، تقف أمامها وقد امتلأت روحك بهجة وسكينة وهدوءاً في لحظات تقتطعها من عمر الزمن لتغدو علامة ماثلة في ذاكرتك. ولم تشبع نفوسنا من كل هذا الجمال الذي رأيناه، فهو جمال ينتقل بك من نهم إلى نهم أشد، وعندما رأينا الغابات على جبال الألب في دافوس، قررنا الذهاب لتقريب المشهد والتعرف على ما في تلك الغابات التي تبدو لوحة رائعة، وبالفعل ذهبنا إلى هناك وطالعنا تلك الأشجار الرائعة.أسطورة «الدموع الزرقاء»
تدور حول بحيرة إنترلاكن الزرقاء أسطورة عن سر هذه التسمية مغزاها تخليد الحب والوفاء، إذ يحكون أنه كان هناك زوجان يعيشان وحدهما في تلك المنطقة، وفي أحد الأيام توفي الزوج فصدمت الزوجة وبكت إلى أن ملأت المنطقة بالدموع الزرقاء، وتبعاً لهذه الرواية تتاح للزوار فرصة رؤية تمثال للمرأة في عمق البحيرة وآثار لبقايا منزلهما نظراً لصفاء المياه فيها، وهذه الرواية مسجلة في اللوحة الذهبية للبحيرة.