في فترة زمنية لا تزيد على الشهر قُتلت أكثر من ثلاث نساء في مدن مختلفة ومراحل عمرية مختلفة أيضا، وفي حين تعددت أساليب القتل بقيت أسباب الموت واحدة، فتاة تقتل لأنها قالت لشاب إنها لا تبادله ما تصور هو أنه حب، وأخرى قتلت لأسباب شبيهة من شاب عربي مريض آخر في مدينة عربية أخرى، وثالثه لأنها طالبت بحقها في إشهار الزواج، وعلى مدى سنين وسنين قتلت النساء في بقع مختلفة من مستنقع المجتمعات المريضة، كلها لأسباب سميت مرة بالشرف حتى أصبحت التسمية (جرائم الشرف) مقززة ومنفرة لأن التسمية الأصح لها هي أمراض مجتمعات تعفنت فيها صور النساء التي رسمتها في الكثير نساء أيضاً، وربّت عليها رجال وقعوا ضحايا لذكوريتهم. مجتمعات تزرع الأمراض في زوايا منازلها أكثر مما تزرع الريحان والنرجس، وأخرى تتقن فن التبرير لرسم صورة نمطية للنساء حتى بين ما يعرف بالفئة المتعلمة والمثقفة أو تلك التي تشربت من ثقافات عدة، يتوهم بعضنا عندما يعتقدون أن أبناء العرب الذين ولدوا في مجتمعات ناضلت من أجل احترام آدمية المرأة سيكبرون ليصبحوا رجالا أكثر تقديراً للنساء العابرات في حياتهم، أما أو أختا أو حبيبة أو صديقة أو سيدة عابرة في طرقات ذكورية بحتة، أخطؤوا عندما تصوروا ذلك فهم أسوأ من أولئك الذين تربوا في أزقة معتمة ليس من قلة الكهرباء أو ندرتها بل من كثر الجهل المغلف بالدين أو ذاك المخترق لحواجز أشباه المتعلمين، خصوصا أن المدارس في دولنا موبوءة بالجهلة المغمسين في لباس ديني حتى اختلط الدين بالعلم، فلم نعد نعرف ما العادات والقيم المتوارثة، وما نصوص الأديان السماوية كلها، فهذه أمراض عابر للأديان من مسيحية ويهودية اقرأوا الإعلام الصهيوني لتعرفوا مدى تخلف ذاك المجتمع الذي يسمي نفسه الدولة الديموقراطية الوحيدة في محيط من الأنظمة الأحادية اللون والشكل والرائحة!!
يصرخ ذاك المذيع البوق ليس لحكومته بل لمن أطلق عليه المذيع الأعلى راتباً في الدول العربية، مثله مثل ذاك البرج الأعلى يؤدون دورا حيوياً في خلق صورة يريد المروجون لها أن تكون أنيقة وجميلة وحضارية وربما متقدمة في الفهم! يقول كيف تبررون مثل هذا القتل، وتأتي أصوات الجوقة في المحطات المختلفة بالصراخ نفسه والاستنكار ذاته، وما يبدو أنه يشكل مفاجأة لهم فيما بين فواصل خطابهم كثير من مخزون لا يختلف عن ذاك الذي كبر عليه هذا الرجل أو ذاك حتى حمل السكين ونحر رقبة الفتاة التي رفضته أو أطلق الرصاص على رأسها أو حتى سكب الأسيد ليشوه وجهها في جرائم تبدو أكثر بشاعة مما نقول عنها مجتمعات منفلتة تروج للإباحية والمثلية!!! رغم أن العنف ضد النساء وقتلهن ليس ببعيد حتى عن تلك المجتمعات، ولكن ربما لا نجد هذا الكم من النفاق في الخطاب الإعلامي والرسمي كما حالنا نحن، والمثير حقا أن يأتي المتحدث باسم تلك الجامعة أو ذاك المنبر الثقافي ليقول كلاماً ليس بعيداً عن كلام هؤلاء الشباب، نتاج المجتمعات المريضة التي تتقن فن الظلام التام الرديف لسواد يصر البعض حتى اليوم أن يكون هو زي «الحشمة» للمرأة! فضحت هذه الجرائم ليس بعض الثقافات المنتشرة بيننا ولا أنظمة تعليمية تكرس لتلك المعتقدات البالية المغلفة بتفاسير ضحلة للأديان، بل فضحت مجتمعاتنا وأجهزة إعلامنا الواقفة عند أبواب من يدفع أو من يملك الحل والربط أو من يمنح تذكرة سفر وإقامة في فنادق الخمس نجوم أو حتى «الغولدن فيزا»!! فضحت هذه الجرائم كل ذلك، وعرتهم هم بدلا من أن تعري النساء، كما يقولون، رغم أن الدراسات الصادرة عن مراكز قريبة منهم تؤكد أن الاعتداءات الجسدية والجنسية على النساء ليست نتاجاً لما تلبسه المرأة أو ما يسمونه «تبرجها» بل إن كثيراً من المحجبات والمنقبات يتعرضن أكثر للتحرش في الشوارع وفي وسائل النقل العام وعلى الشواطئ، وفي السينمات والمقاهي وكل الفضاءات المفتوحة للجميع إلا المرأة التي عليها أن تفكر كثيراً قبل أن تملك الجرأة والقوة والبطولة للخروج وممارسة أبسط حقوقها كـ»بني آدمة»، أكثر الخطابات اشمئزازا هي التي تدفع بنساء للدفاع عن المرأة الضحية عبر التبرير أنها كانت ترتدي لبسا «خليعا» أو غير مناسب ولذلك تتحمل النتيجة! ما حدث ليس حادثاً أو جريمة عرضية بل هو شرخ مجتمعي سندفع لأجيال وأجيال قادمة ثمنه الباهظ، وأكثر من يدفع الثمن هن النساء، ولذلك ففي حين حصلت ثورات أو انتفاضات أو مراجعات في عدد من الدول بقيت قضية المرأة وطريقة تعامل المجتمع مع نسائه هي البعيدة عن أي مراجعة ومصارحة واعتراف بالأسباب التي هي ليست مخفية أو مستترة أو ليست هي جزء من حياتنا جميعا اليومية، وليست شيئا عارضا أو طارئا، فلنعد إلى مراجعة حقيقية للأنظمة التعليمية ليس لما يريده «الأصدقاء والحلفاء» الجدد لبعض الدول بل بما يعيد للنساء العربيات كرامتهن وحقهن كبشر، وأن يتم توقيف رجال الدين الجهلة بدلا من رقابة الجمعيات السياسية السلمية، كما مفيد أن تعيد العائلات كيفية تربيتها للنساء والرجال من أبنائها، و... و... والحلول واضحة وبسيطة وسلهة لو أراد صناع القرار أولئك الذين يدفعون لكل هذه الجوقة الإعلامية للاستنكار أن يقوموا بخطوات أكثر من مجرد الاستنكار لساعات، ثم النسيان حتى تذبح امرأة أخرى وأخرى وأخرى كالقطيع من خراف أعيادكم!!!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
أكثر من قتل في أكثر من مدينة *
04-07-2022