هيمنة المحافظين على المحكمة العليا الأميركية ستترك تأثيراً لعقود
بعد عامين على ملء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مقاعدها بشخصيات محافظة، أحدثت المحكمة العليا الأميركية تحوّلا كبيرا في القانون الدستوري للبلاد من شأنه أن يؤثر بشكل جوهري على حياة الأميركيين لعقود مقبلة.وانقلبت قواعد العدالة المقبولة منذ زمن طويل رأسا على عقب، إثر قرارات مهمة على غرار إلغاء حقوق الإجهاض والسماح للأميركيين بحمل أسلحتهم النارية في الأماكن العامة بحريّة، وتوسيع التعليم الديني في المدارس وإلغاء الحماية في حقوق التصويت وعرقلة مساعي الحكومة لوضع حد للغازات المسببة لمفعول الدفيئة.ومع غالبية من 6 قضاة مقابل 3، يمثّل المحافظون بزعامة رئيس المحكمة جون روبرتس تحوّلا كبيرا في ميزان العدالة، بعدما اتبعت الهيئة القضائية على مدى عقود مسارا تقدّميا بشكل متواضع.
سياسيا، تمثّل المحكمة برئاسة روبرتس ردا من اليمين الجمهوري الذي سعى منذ سبعينيات القرن الماضي للسيطرة عليها لإلغاء قرارات رئيسية يعتبر أنها تنطوي على مبالغات. لكنّ محللين يشيرون إلى أن موسم عمل المحكمة السنوي الذي انتهى للتو كشف عن مجموعة قضاة أكثر تشددا مما كان متوقعا. ولم يتردد هؤلاء في إلغاء قرارات أسلافهم، بما في ذلك بعض الحقوق مثل الإجهاض ارتأت المحكمة في الماضي أنها مكفولة في الدستور.وقال أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأميركية ستيفن ورميل «ليس غريبا أن نرى الكفة تتغير، وأن نشهد ما يمكن اعتباره تصحيحا للمسار».لكن في الفصل الذي انتهى للتو، قامت المحكمة بـ «تحوّل كبير ومفاجئ في اتّجاه محافظ بدرجة أكبر بكثير»، بحسب ورميل. وذكر أن «جيلين من الأميركيين، وربما أكثر، نشآ وهما يعرفان مجموعة محددة من الحقوق». وأضاف «هذه حالة نادرة استعادت المحكمة العليا خلالها بشكل درامي حقوقا دستورية».وقال الخبير في المحكمة العليا بكلية الحقوق التابعة لجامعة وليام آند ميري، نيل ديفنز: «كانت محكمة وارن آخر محكمة اتّسمت بالتماسك الأيديولوجي وسعت إلى أهداف ليبرالية». واتّخذت تلك المحكمة التي ترأسها حينذاك إيرل وارن على مدى 16 عاما من عام 1953 إلى 1969 قرارات مفصلية زادت الحقوق والحريات المدنية.وأنهت فعليا الفصل العنصري بين البيض والسود وعززت سلطة الحكومة الفدرالية، وقلّصت جلسات الصلوات الرسمية للمسيحيين في المدارس العامة، ووضعت أسس قرار عام 1973 اعتبر الإجهاض حقا دستوريا.وألغى فريق وارن العديد من السابقات وأثار حفيظة المحافظين بنفس القدر الذي تثير به محكمة روبرتس اليوم امتعاض الليبراليين. لكن ديفنز يشير إلى اختلافات كبيرة، إذ عيّن رئيس ديموقراطي 4 من أعضاء محكمة وارن المحافظين، بينما اختار رئيس جمهوري قاضيين ليبراليين.وفيما يتعلّق بالكثير من القرارات المهمة، كان قضاة من الطرفين ضمن الأغلبية والأقلية المعارضة. ولم تكن قراراتهم تتواءم بشكل تام مع الانقسام السياسي بين الجمهوريين والديموقراطيين. وبالفعل، عيّن جمهوريون 5 من القضاة الـ 7 الذين أيّدوا قرار الإجهاض عام 1973. وفي المحكمة الحالية، عيّن رؤساء جمهوريون جميع القضاة المحافظين و3 منهم اختارهم ترامب وحده، بينما تنقسم مواقف الطرفين تماما، بحسب ديفنز.وقد يكون القضاة لا يفكرون بشكل متعمّد على أساس سياسات الجمهوريين والديموقراطيين، «فإن هذه المحكمة منقسمة ليس على أساس فكري فحسب، بل على أساس الحزب السياسي أيضا»، وفق ما أكد ديفنز.كما أن قرارات القضاة الستة المحافظين تميل إلى اليمين بشكل يتجاوز حتى ما يمكن للعديد من الجمهوريين بأن يتقبلوه. وقال ديفنز: «هذه المحكمة أكثر استعدادا من محاكم أخرى للذهاب أبعد عقائديا».
ليست مهمتنا
ولعل اللافت في محكمة روبرتس الاعتقاد السائد بأن المحاكم العليا في الماضي، على غرار تلك التي ترأسها وارن، تولت قضايا لم يكن اتّخاذها قرارات بشأنها ضمن مهامها.فمثلا، قال قضاة المحكمة إن الإجهاض ليس حقا يكفله الدستور، بل قضية أخلاقية يتعيّن على الناخبين في كل ولاية اتّخاذ قرار بشأنها. ورأوا أن «الكونغرس» وحده، لا وكالة حكومية مستقلة، لديه سلطة واسعة لتحديد سقف تنظيمي للغازات المسببة لمفعول الدفيئة. وتعكس طريقة عمل الحكومة، بحسب ما كتب القاضي نيل غورسوتش، «التنامي الكبير للولاية الإدارية منذ عام 1970».لكنّ معارضين يشيرون إلى أن ذلك يتجاهل حقيقة أن الولايات بحد ذاتها منقسمة بشكل كبير بشأن الإجهاض، وهو ما يخلق بيئة تفتقد إلى حد كبير العدالة بالنسبة إلى النساء. ويقولون إنه لا يمكن للحكومة العمل إذا كان لا يمكن للوكالات التنظيمية تطبيق سياستها.وقال أستاذ القانون في جامعة هارفارد، ريتشارد لازارس، إن «المحكمة تعرف أن الكونغرس يعاني خللا عمليا». لكنها «تهدد بتقويض قدرة الحكومة الوطنية على المحافظة على الصحة العامة والرفاه في لحظة تواجه الولايات المتحدة، وجميع الدول، أكبر تحدّ بيئي على الإطلاق».ولا توجد مؤشرات عديدة على أن التكتل المحافظ سيتراجع، إذ وافق القضاة على النظر في قضايا تحمل أهمية تاريخية خلال الفصل المقبل الذي يبدأ في سبتمبر، ترتبط بالتمييز الإيجابي وقوانين الانتخابات وتنظيم الأعمال التجارية. وقال ديفنز: «بدأت هذه المحكمة التحرّك للتو. ما زال من المنتظر معرفة ما سيحققونه».بدوره، أشار روميل إلى أن المحافظين «لديهم فرصة الآن لتبديل التوجّه بشكل تام بعد 50 عاما.. ورؤيتهم هي أنهم لن يفوّتوا هذه الفرصة».