تزداد المخاوف في تايوان والولايات المتحدة والدول الحليفة لواشنطن في آسيا من استعداد الصين لمهاجمة تايوان في المستقبل القريب، وجاءت حرب الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا لتؤجّج هذه المخاوف في الفترة الأخيرة، فبدا وكأن بكين تدعم العدوان الروسي حين أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ، قبيل الغزو مباشرةً، أن شراكة بلده مع موسكو «غير محدودة»، ثم امتنع عن استنكار تحركات بوتين ودعمت وسائل الإعلام الصينية الحملة الدعائية الروسية. قد تجد بكين الفسحة الاستراتيجية التي تنتظرها بعدما أصبحت الموارد الأميركية السياسية والعسكرية مشلولة اليوم في أوروبا، كذلك، قد يعتبر القادة الصينيون الرد الغربي على الهجوم الروسي مؤشراً على عدم استعداد الولايات المتحدة لتنفيذ تدخّل عسكري للدفاع عن بلدٍ ليست مُلزِمة بشؤونه بموجب معاهدة دفاعية رسمية، لا سيما إذا حصلت المواجهة مع خصم مسلّح نووياً.لكن قد لا تكون المخاوف من أي هجوم صيني وشيك مبررة، فطوال عقود اتّسمت سياسة الصين تجاه تايوان بالصبر الاستراتيجي، وطبّق البلد المقاربة نفسها في نزاعات إقليمية أخرى، بدءاً من الهند وصولاً إلى بحر الصين الجنوبي، ولن تدفع الحرب في أوكرانيا الصين إلى التخلي عن مقاربتها الاعتيادية واستبدالها بهجوم عسكري وشيك ضد تايوان، بل من المتوقع أن ترسّخ التزام بكين بخوض لعبة طويلة الأمد، فقد كان الثمن الذي دفعته موسكو، على المستوى العسكري أو على شكل عزلة دولية، جزءاً بسيطاً مما ينتظر الصين إذا حاولت يوماً الاستيلاء على تايوان بالقوة، إذ تفضّل بكين أن تتحلى بالصبر وتنتظر استسلام تايوان في نهاية المطاف بدل استهدافها الآن والمجازفة بضم الجزيرة مقابل كلفة باهظة أو خسارتها إلى الأبد.
لعبة الانتظار
في المقام الأول، تستطيع بكين أن تنتظر لفترة قبل أن تصبّ الظروف في مصلحتها في غرب المحيط الهادئ، فحين تدرك واشنطن أن كلفة الدفاع عن تايوان تتجاوز قدراتها ويفهم المسؤولون في تايوان أن واشنطن لم تعد تريد التصادم مع الصين، قد تتخذ تايوان قراراً براغماتياً وتتفاوض على تسوية توافق عليها بكين، وفي غضون ذلك، تستطيع الصين أن تكتفي بمنع تايبيه وواشنطن من محاولة انتزاع استقلال رسمي لتايوان، فلا ينذر استعراض القوة الصينية بوقوع هجوم وشيك إذاً، بل يهدف هذا النهج إلى كسب الوقت بانتظار أن يأخذ التاريخ مجراه الطبيعي.على صعيد آخر، أثبتت بكين صبرها الاستراتيجي سعياً لتحقيق أهدافها الأخرى، على عكس الأفكار الشائعة التي تعتبر الصين دولة تتوق إلى الحرب، فقد يكون سلوك بكين في بحر الصين الجنوبي خير مثال على ذلك، فقد بَنَت الصين هناك سبع جزر رملية وسلّحتها من دون خوض الحرب مع الولايات المتحدة أو الجهات الإقليمية الأخرى التي تنافسها على الأراضي، فحققت بكين هذا الهدف عبر حصر البناء في المساحات التي تسيطر عليها أصلاً، تزامناً مع إنكار حقيقة ما تفعله، فكانت الجهات الإقليمية أضعف من أن تواجه الصين، وافتقرت الولايات المتحدة إلى مبررات التحرك لأنها لا تطالب بأي منطقة تتوسّع فيها الصين، كذلك، منعت بكين الوصول إلى مساحة متنازع عليها مع الفلبين، حليفة واشنطن الوحيدة المتورطة في هذه النزاعات، لكن من دون فرض سيطرتها هناك، لم ترغب الفلبين في استغلال تحالفها مع واشنطن للتحرك عسكرياً والدفاع عن نفسها.في الوقت نفسه، غيّرت الصين الوضع الاستراتيجي القائم من دون افتعال صراع مسلّح بسبب جزر «سينكاكو» المتنازع عليها (تسمّيها الصين جزر «دياويو») عبر الانتقال من حضور بحري متقطع في المياه اليابانية إلى حضور دائم، فزوّدت قواتها البحرية بمجموعات أقل صدامية من خفر السواحل والميليشيات البحرية وسفن الصيد، وطبّقت بكين المقاربة نفسها في إقليم «لاداخ» في الهند، حيث حسّنت القوات الصينية موقعها تدريجاً وأطلقت سلسلة من خطوط السيطرة الجديدة من دون افتعال إلا حادثة إطلاق نار واحدة مؤكدة عادت وسيطرت عليها سريعاً.كذلك، كثّفت الصين استثماراتها في مشاريع الموانئ المدنية في أنحاء المحيط الهندي وأماكن أخرى لاستعمالها كركيزة لعملياتها البحرية المستقبلية، فزادت المخاوف بدرجة معينة لكن من دون إطلاق أي ردود مضادة، واستخدمت بكين أيضاً نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي في إفريقيا، وأوروبا، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط، وأوقيانوسيا، وقدرتها على تحديد المعايير في المؤسسات الدولية لتشجيع الحكومات على الاصطفاف مع المصالح الصينية، مما أدى إلى إثارة المخاوف مجدداً لكن من دون ظهور أي مقاومة فاعلة في وجهها. تثبت هذه «التكتيكات الرمادية» في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية أن تحركات الصين الاستراتيجية تحمل أهدافاً طويلة الأمد ولا تُركّز على الأحداث القريبة، لذا فضّلت بكين الانتقال من حضور معدوم إلى وجود دائم في مجموعة من المناطق من دون افتعال ردة فعل قوية أو صراع مسلّح (باستثناء القتال في «لاداخ»). كان ذلك الحذر الاستراتيجي نفسه واضحاً في سياسة الصين تجاه تايوان حتى الآن، فقد صعّدت بكين الاضطرابات هناك ومنعت مساعي تايوان لنيل الاستقلال من دون افتعال أزمة فورية.أخيراً، لن يستنتج شي جين بينغ من الحرب الروسية في أوكرانيا أن العدوان البري سيبقى بلا محاسبة عسكرية من جانب الغرب، بل سيدرك على الأرجح أنها عملية صعبة ومكلفة، ولا شيء يثبت أن الرئيس الصيني محاط برجال خانعين قد يخبرونه بأن الحرب في تايوان يسهل الفوز بها، كما هي حال بوتين مثلاً، لكن حتى لو كان الوضع كذلك، يُعتبر الصراع الطاحن في أوكرانيا مؤشراً على طابع الحرب غير المتوقع وارتفاع التكاليف المترتبة عن حُكم شعبٍ مقاوم، وستكون العملية البرمائية التي تحتاج الصين إلى تنفيذها للاستيلاء على تايوان أكثر صعوبة بكثير من الغزو الروسي الذي تنفّذه روسيا في أوكرانيا، كما يعمل شي جين بينغ منذ فترة على إصلاح بنية قيادة الجيش الصيني وتكثيف التدريبات على هذه العمليات، لكن تفتقر القوات الصينية حتى الآن إلى الخبرة في العمليات القتالية الحقيقية، وفي غضون ذلك، زاد احتمال أن تتدخّل واشنطن للدفاع عن تايوان تزامناً مع توسّع المشاعر المعادية للصين في الولايات المتحدة وأوروبا، وبعد تأكيد الرئيس الأميركي جو بايدن الشهر الماضي على التزام بلده بالدفاع عن تايوان.وحتى لو كانت بكين قادرة على الانتصار في حرب تايوان، لا يمكن التأكيد على فوزها بالصراعات اللاحقة، وقد يكون عزل روسيا عن الاقتصادات الغربية مؤلماً جداً بالنسبة إلى موسكو اليوم، لكنّ السيناريو المتوقع بعد الحرب الصينية سيكون أسوأ بكثير على الاقتصاد المحلي، حيث تستورد الصين 70% من نفطها و31% من غازها الطبيعي، وهي أكبر مُنتِجة للفحم في العالم لكنها لا تزال بحاجة إلى استيراد كميات إضافية، فقد يحاول البلد أيضاً بلوغ مستوى من الاكتفاء الذاتي في مجال تأمين المواد الغذائية، لكن تبقى الصين أكبر مستوردة للأغذية في العالم، لا سيما الذرة، واللحوم، وثمار البحر، وفول الصويا، حيث يستورد البلد جزءاً من واردات الطاقة والمواد الغذائية من روسيا، لكن تأتي كميات أخرى من بلدان مستعدة لمعاقبة الصين إذا قررت غزو تايوان، وحتى لو لم تفرض عليها تلك الدول العقوبات، لا تملك البحرية الصينية نطاق النفوذ اللازم للدفاع عن ممرات الشحن التي تتدفق عبرها تلك البضائع وسلع أساسية أخرى، وستكون أي حرب بسبب تايوان، حتى لو حققت فيها بكين النجاح الذي تريده، ضربة مدمّرة للاقتصاد الصيني، فتنشأ ظروف تُهدد الاستقرار السياسي المحلي وتُمهد لانهيار الحلم الصيني.محاربة الصبر بالصبر
في مطلق الأحوال، يجب ألا تصبح هذه العوامل مبرراً للتراخي الأميركي أو التايواني، ومن الواضح أن الصين تطبّق مقولة الخبير الاستراتيجي القديم، سون تزو: «تكمن ذروة المهارة في قهر العدو من دون قتال»، وإذا نجحت بكين في الاستيلاء على تايوان في نهاية المطاف، فلا مفر من أن تُضعِف مصداقية واشنطن أمام حلفائها في آسيا، وحتى أوروبا، فتتشجّع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى على التكيّف مع الصين أو الاستعداد للدفاع عن نفسها من دون مساعدة الولايات المتحدة.لهزم استراتيجية الصبر الاستراتيجي الصينية في تايوان، تقضي الطريقة الوحيدة إذاً بالتحلي بالقدر نفسه من الصبر، ومتابعة تعديل نظام الردع الأميركي والتايواني بما يتماشى مع تهديدات الأسلحة والتدريبات الصينية المتزايدة، وستكون هذه المهمة شاقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة لأنها تتزامن مع تراجع حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى أقل من 25% (بعدما كان 40% عام 1960)، وافتقار البحرية الأميركية إلى سفن كافية لإتمام جميع المهام الموكلة إليها. وتزداد صعوبة هذه المهمة في جزيرة لا تنفق أكثر من 2.1% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، ولم تبدأ إلا مؤخراً بتخفيف اتكالها غير الواقعي على المنصات المتقدمة والمكلفة لدرء الهجوم الصيني والانتقال إلى «استراتيجية القنفذ» التي تستعمل الألغام، والصواريخ القصيرة المدى، والدفاع المدني، وتطلق مقاومة على طريقة حرب العصابات، لكن إذا كانت المواجهة المطوّلة في مضيق تايوان السيناريو الأقرب إلى الواقع مستقبلاً، فسيكون الفريق الذي يبقى في اللعبة لأطول فترة الأكثر قدرة على التفوق.● أندرو ج. ناثان