يُعرف الفنّان ناظم الغزالي بأنه مطرب سطع نجمه في خمسينيات القرن الماضي، واتسمت أعماله بالتجديد والتنويع، وهو ما جعلها مستساغة عربياً على نطاق واسع إلى يومنا هذا، استند تميزه إلى موهبته الاستثنائية التي منحته طبقة صوتية مرتفعة صادحة (سوبرانو)، ولكنها في ذات الوقت لا تعطي الإيحاء بذلك مخيَّلةً للمستمع أنها أكثر انخفاضاً بكثير مما يجعل صوته محبباً للأسماع، ولكن بالطبع ليست الموهبة وحدها مانحة النُّبوغ، فقد نشط ناظم في تطوير قدراته بدراسة التمثيل، مما ساعده على تطوير أدوات تعبيره، مع حيازته لمكتبة كبيرة تضمنت كتباً وأسطوانات قيّمة، تجدر الإشارة إلى اقتناء الصديق د. أحمد الصالحي بعض دواوين الشعر الثمينة العائدة لتلك المكتبة، بما فيها من ملاحظات دالّة على ثقافته وذائقته الرفيعة قام ناظم بتدوينها بخط يده، كما نشر سلسلة من المقالات الفنية في المجلات والصحف، وكاد أن يتوجها بكتاب مهم بعنوان «طبقات العازفين والموسيقيين من 1900 إلى 1962»، كان قد أنجز الجزء الأكبر منه بمخطوط قبل أن تخطفه يد القدر عام 1963 في ظروف غامضة دارت حولها الكثير من التكهنات في أحجية مثيرة لم يُكتب لها الحل.

من بين كوكبة شعراء الفصحى الذين تغنى ناظم بأبياتهم والمتضمنة المتنبي، أبو فراس، ابن الملوح، البهاء زهير، إيليا أبو ماضي، أبو نواس، ابن زريق، شوقي، وغيرهم، كانت المفاجأة غير المكتشفة سابقاً أنه تغنى بأبيات لشاعرنا الكبير فهد العسكر، فقد وقعت عيناي على أبيات تضمنها ديوانه، كان ناظم قد تغنى بها أكثر من مرة، اندرجت الأبيات المغنّاة تحت نمط «التخميس»* مطلعها تساؤل الشاعر «رُمِيتَ بسَهْمِ اللحْظِ أم عَقَّكَ الدهرُ؟» وعلى الرغم من احتواء الموّال المغنّى بصوت الغزالي على 35 شطراً**، إلا أن ديوان العسكر تضمن 10 أشطر منها فقط (الأشطر الأخيرة)، ويبدو أن ذائقة الغزالي التقطت أبيات العسكر من إحدى المجلات الثقافية العراقية النشطة آنذاك في زمن الملكية، والتي كان الاثنان (العسكر والغزالي) ينشران من خلالها القصائد والمقالات، كما يبدو أن الأبيات الناقصة هي من ذات المصدر، ولكن لم يتم توثيقها في ديوانه الذي تم نشره بعد رحيله بطبعات عدة، تميز كل منها بنشر أبيات لم تُنشر في سابقتها كان للتخميسات نصيب منها، ولكن رحلة التوثيق لم تستمر بعد نضوب المصادر لتواجه الأبيات المفقودة مصير أغلب إبداعات العسكر التي نالت منها يد الإهمال والطمس والحرق.

Ad

الجميل في ذلك التداخل الفني وقوعه قبل زيارة ناظم الشهيرة للكويت عام 1963، والتي سجل من خلالها أجمل حفلاته في سينما الأندلس، مع تسجيله المقابلة التلفزيونية الوحيدة في حياته، لذا يمكننا الزعم بأن جودة الشعر هي أساس ذلك التداخل بين مبدعين اثنين جمعت بينهما الكثير من المشتركات بالرغم من عدم التقائهما، منها تحررهما من القيود التي قال ناظم إنه لا يحبها في واحدة من أشهر مواويله، ومنها محاربة المجتمع لهما مع تبخر الكثير من إبداعهما، والأغرب رحيلهما المفاجئ في عمر مبكر، إذ رحل ناظم وعمره 42 عاماً مع رحيل العسكر بعمر الـ 34 عاماً فقط.

* التخميس: نمط شعري يؤلف فيه الشاعر ثلاثة أشطر جديدة ويتممها بشطرين شهيرين من عيون الشعر العربي بشكل متناغم مع المعنى والوزن والقافية.

** التخميس المُغنّى

رُمِيتَ بسَهْمِ اللحْظِ أم عَقَّكَ الدهرُ

أم انتابَكَ الواشونَ فافتضح السِّرُّ

فلا تبتئسْ يا صاحِ إنْ لامَكَ الغَيرُ

أراكَ عَصِيَّ الدمعِ شِيمتُكَ الصبرُ

أما لِلهوَى نَهْيٌ عليكَ ولا أمر

فإنْ قلتَ كم سالتْ على الخدِّ دَمعةٌ

وكم عبِثتْ بالقلبِ منكَ ملامةٌ

ستنطقُ عند الليلِ عَنيَ عَبرةٌ

نعم أنا مُشتاقٌ وعنديَ

لوعةٌ ولكنَّ مِثلي لا يُذاعُ له سِرُّ

مِنْ أَسْرِ حُبِّكِ ما طلبتُ فَكاكي

أبدًا ولا عشِق الفؤادُ سِواكِ

يا مَنْ لِصَبِّكِ قد أَطَلْتِ جَفاكِ

ما لي فُتِنْتُ بِلَحْظِكِ الفَتَّاكِ

وسَلَوْتُ كلَّ مَليحةٍ إلاَّكِ

أمّلتُ منكِ ومن هواكِ سعادتي

وجعلتُ حبّكِ لي حياةَ عبادتي

حكَمَ الْهوى بِمَذلّتي ومَهانتي

يُسراكِ قد ملكَتْ زِمامَ صبابتي

ومَضلّتي وهُدايَ في يُمناكِ

مَهما أردْتِ من العذابِ فعذّبي

فالحبُّ دِيني والصبابةُ مذهبي

قَسَمًا بِمُوسَى ثم عيسى والنبي

إني أغارُ من الكؤوسِ فجَنِّبي

كأسَ المُدامةِ أن تُقبِّلَ فاكِ

طافَ السُّقاةُ بها ما كان أشهاها

فيا نَدامَى أراحٌ أم حُمَيَّاها

فقد تضوّع في الأقداح ريّاها

سَلُوا كُؤوسَ الطِّلا هل لامستْ فاها

واستخبروا الراحَ هل مسَّتْ ثناياها

هيهاتَ أنسَى وما ليلَى بناسيةٍ

سُوَيْعةً جمعتْنا فوقَ رابيةٍ

حتى إذا سمِعَتْ ترجيعَ شاديةٍ

باتتْ على الروض تَسقيني بصافيةٍ

لا للسُّلافِ ولا للوَردِ رَيَّاها

فيصل خاجة