سقطت مدينة ليسيتشانسك بيد روسيا، ومنحتها سيطرة كاملة على إقليم لوهانسك الانفصالي في أوكرانيا، وزادت قدرتها على التحكم في أجزاء إضافية من دونيتسك، الإقليم الآخر الذي اعترف الكرملين باستقلاله قبل يومين من إطلاق الغزو... قد تقرر روسيا اعتبار هذا النصر ذروة الحرب أو تسعى إلى تحقيق انتصار كامل عبر الاستيلاء على أوكرانيا كلها، لكن قبل التفكير في هذا الخيار، يجب أن نراجع أولاً المفاهيم الكامنة وراء خطة روسيا الأولية.تحمل جميع القوى العسكرية عقيدة خاصة بها، وتُسمّى العقيدة الروسية التي ظهرت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي «المعركة العميقة»، وهي تستبق مسار القتال الروسي في أي مستوى من الحرب، ويتعلق هدفها الأساسي باختراق العدو على أعمق المستويات وفي أسرع وقت ممكن، ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن يزيد التنسيق على جميع مستويات المعركة وبين مختلف الأطراف المعنية.
في أوكرانيا مثلاً، كانت عقيدة «المعركة العميقة» تقضي بتنسيق العمليات العامة في جميع ساحات المعارك، وتُعتبر هذه الساحات ضرورية للسيطرة على مسار المعركة عبر وحدات صغيرة بقدر الكتائب، غير أن عمق هذه العقيدة لا يتحدد بحسب مستوى اختراق العدو فحسب، بل يتأثر أيضاً بطريقة تنفيذ أوامر القيادة والتحكم.ارتكز مفهوم الهجوم الأولي ضد أوكرانيا على عقيدة «المعركة العميقة»، فنظّم القوات على شكل ثلاث دفعات مدرّعة ومعدّة لتوجيه الضربات من الشمال نحو كييف، ومن الجنوب نحو «أوديسا»، وعلى مسافة قصيرة من إقليم «دونباس» شرقاً. بدت الأوامر الأولية واضحة بغض النظر عن مسار الأحداث، لكن القوات الشمالية أُعيقت على الطريق وبقيت في مكانها أياماً من دون تصحيح الأوامر التي تتلقاها. كانت تلك الوحدة تهدف على الأرجح إلى دعم القوات القادمة من الشرق، إذ من المعروف أن الدبابات تحرق الوقود سريعاً، حتى لو لم تكن تتحرك، ولم تتلقَّ الوحدات اللوجستية أي أوامر جديدة أو عجزت عن تنفيذها. وانطلاقاً من عقيدة «المعركة العميقة»، ظهرت ثلاث ساحات منفصلة لتنفيذ العمليات من دون خطة قتالية متكاملة، ومن الواضح أن تدفق المعلومات توقف حين دخل جنود المشاة إلى المدن المحصّنة، فلم يفهم هؤلاء طبيعة القوة التي يواجهونها، كذلك، لم تكن القيادة العليا تعرف أي معلومات استخبارية عن براعة العدو في القتال أو الواقع اللوجستي أو مسار المعارك، باختصار، استُعمِلت عقيدة «المعركة العميقة» بأسوأ طريقة ممكنة.لم تفشل عقيدة «المعركة العميقة» كمفهوم بحد ذاته بل كانت طريقة تنفيذها شائبة، وأصبحت المعركة المرتقبة الآن أكثر بساطة، إذ من المتوقع أن يحمل التحرك نحو «أوديسا» مواصفات المعركة الناجحة، وقد يصبح القائد الأعلى أكثر ميلاً إلى فهم ظروف المعركة ويصدر الأوامر اللازمة عند الحاجة، تزامناً مع مراقبة ساحة قتال واحدة بحذر بدل الانشغال بثلاث ساحات في الوقت نفسه.لم تتّضح بعد فرص تحقيق انتصار روسي، حيث إنه في ظل التركيز على إقليم «دونباس»، حصلت القوات الأوكرانية على استراحة كانت بأمسّ الحاجة إليها، وتلقّت في الوقت نفسه أسلحة جديدة وتدرّبت على استعمالها، إذ يسهل تدريب الجنود المعتادين على القتال في ساحات المعارك أكثر من المبتدئين الذين واجهوا روسيا في أول تجربة قتالية في مسيرتهم. بدأت روسيا تتجه الآن إلى ساحة عمليات أخرى مع جنود ملطخين بالدم وضباط يعرفون طعم الهزيمة والنصر، هم يواجهون جيشاً أوكرانياً واسعاً وشجاعاً ومزوّداً بأسلحة جديدة وقوية. لقد فشلت عقيدة «المعركة العميقة» خلال أول اختبار، لكنها ستحصل على فرصة ثانية ضد عدو يقاتل بمجموعات صغيرة ويعتمد على توجيهات استراتيجية دقيقة، لكن تكتيكاته تبقى أقل مستوى بكثير؛ إنها عقيدة السلطة المتفرقة، وباستثناء سفك الدماء المتوقع، ستكون مراقبة الأحداث المرتقبة عملية مثيرة للاهتمام.* جورج فريدمان
مقالات
ما هي عقيدة روسيا العسكرية؟
14-07-2022