«لأمر ما جدع قصير أنفه»، مثل عربي لحادثة قديمة لابد أن أكثرنا قرأ عنها، وهو مثل لايزال يتداول كناية عن الحيلة والخديعة.

وراء هذا المثل روايتان عربية ويونانية، سنختار منهما العربية، وتحكي عن قصة ثأر بين جذيمة الأبرش أحد ملوك العراق والملكة الزباء، أو زنوبيا، بنت عمرو بن السميدع. كان جذيمة ملكاً مهيباً، وحصل أن قتل والد الزباء المعروفة بدهائها وجمالها، وما إن تولت الحُكم بعد أبيها، حتى بنت قصرين متقابلين على ضفاف الفرات، ثم حفرت أسفل كل منهما نفقاً سرياً ليكونا مهرباً عند الضرورة.

Ad

كان بين الزَّباء وجذيمة وقتها هدنة، فباح يوماً لقصير، مستشاره المقرب، برغبته في خطبة الزباء، إلا أنه حذّر جذيمة منها، فبينهما دم، لكن جذيمة أصر على خطبتها. انصاع قصير لرغبة ملكه فتوجه للزباء خاطباً، فتظاهرت بالفرح وقبول الزواج، فرح جذيمة بذلك، إلا أن قصيراً قال لملكه: «أرى القدر يسابق الحذر، ولا يطاع لقصير أمر» فأصبح ما قاله مثلاً.

قدم جذيمة في موكبه للزباء فاستقبلته بحفاوة، حتى أنها أمرت الناس بأن يرحبوا بملكهم الجديد، فرح جذيمة، إلا أن ريبة قصير ازدادت، فقال لجذيمة ناصحاً: انظر للناس من حولك، فإن وجدتهم محيطين بك عن يمينك وشمالك، فلتسرع فارّاً.

دخل جذيمة القصر ورأى الجنود تحاصره، والزباء تنظر إليه من الأعلى، لكنه واصل تقدمه، فأما قصير ففر هارباً، وأما جذيمة فما إن دخل القصر وأُجلس بجوار الزباء حتى لاقى مصيره طعناً على يد عروسه المفترضة.

اُستُخلف عمرو بن عدي على الحكم بعد مقتل خاله جذيمة، فطلب قصير منه أن يجدع له أنفه، وأن يضربه بالسياط، ليذهب للزباء مدعياً أن عمْراً هو من فعل به ذلك انتقاماً لهربه بعد مقتل خاله، وحتى يتسنى له لاحقاً الأخذ بثأره منها، إلا أن عَمْراً رفض، فقام قصير بجدع أنفه وجلد ظهره بنفسه.

كان العرب يعرفون قصيراً ومدى دهائه، فأدركوا أنه ما فعل بنفسه ذلك إلا لأمر ما، فقالوا: «لأمر ما جدع قصير أنفه»، وفعلاً ركب قصير فرسه للزباء، فاستغربت حالته المزرية، فأخبرها بأن عمرو بن عدي هو من فعل ذلك لأنه شك بخيانته لجذيمة، ولذا أتاها مستجيرا، فأجارته، ومع مرور الأيام وثقت به، وقربته إليها، مما مكنه من معرفة مكان نفقيها السريين.

وذات يوم طلبت الزباء من قصير أن يحضر لها مؤونة وعتاداً لجيشها، فعلم قصير أن فرصة الانتقام حانت، فأخبر عمراً بأن يخبئ ألفين من الجند في صناديق محملة على ألف جمل ويتوجه بهم إليه.

دخلت قافلة الجمال المحملة بجند عمرو إلى المدينة ببطء، ما جعل الزباء ترتاب، ولكن بعد فوات الأوان، فقد انتشر الجند في أرجاء القصر، فحاولت الفرار للنفق، ولكن قصير الداهية الذي سبق أن عرف مكان المخبأين حال دونها وسلمها لعمرو، فلما رأت الزباء عدوها اللدود، سارعت إلى تجرع سم كان تحت فص خاتمها، وقالت قولتها المشهورة: «بيدي لا بيد عمرو» والتي ذهبت مثلاً.

فالفعل الذي فعله قصير في جسمه يدل على تغلب الولاء الأعمى والحقد الدفين على كل ما عداهما، فالذي يجدع أنفه ويجلد ظهره ثأراً وانتقاماً إرضاء لغيره، لاشك أنه وصل إلى حد لا يمكن التكهن بحدود فعله.

ملحوظة: منقول من التراث بتصرف.

* طلال عبد الكريم العرب