تأتي رحلة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط في مرحلة مفصلية، تتلاحق فيها الجهود في اللحظات الأخيرة لإعادة إحياء المحادثات المتباطئة بين الولايات المتحدة وإيران لتجديد «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي تهدف إلى منع الجمهورية الإسلامية من تطوير سلاح نووي. منذ الجولة الأخيرة من المحادثات في فيينا، سرّعت طهران برنامجها وقد تصل قريباً إلى عتبة الاختراق النووي. عندما انتقدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران بسبب امتناعها عن التعاون مع المفتشين، عمدت الحكومة الإيرانية إلى تقليص نطاق مراقبة الوكالة لبرنامجها النووي وأعلنت افتتاح منشآت تخصيب متقدمة جديدة.لكن إسرائيل تعهدت منذ وقت طويل بأنها لن تتحمّل تسلّح إيران نووياً، وهي تنشط خارج المؤسسات المتعددة الأطراف لتحقيق هذا الهدف، ولذ أقدمت على اغتيال عدد من العلماء والمسؤولين العسكريين الإيرانيين، ونفذت اعتداءات جوية ضد مواقع إيرانية في سورية، ووسّعت قدراتها الهجومية استعداداً لشن هجمات جديدة ضد المواقع النووية والمنشآت العسكرية الإيرانية. وبدعمٍ من الولايات المتحدة، يحاول الإسرائيليون أيضاً إقناع بعض الدول العربية بالمشاركة في تحالف عسكري ضد إيران، وقد ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن الولايات المتحدة عقدت اجتماعاً في مارس الماضي مع مسؤولين أمنيين من مصر، وإسرائيل، والأردن، وعدد من دول المنطقة لتقاسم المعلومات الاستخبارية وأنظمة الدفاع الجوي والتصدي للتهديدات الجوية الإيرانية.
بدأت هذه التطورات تعوق خطط واشنطن الخاصة بالشرق الأوسط، واعتبرت إدارة بايدن إعادة إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة» أفضل طريقة للسيطرة على برنامج إيران النووي، لكن يبدو أنها مستعدة لتبنّي المقاربة الإسرائيلية الراهنة لاحتواء إيران إذا فشلت تلك المساعي، ويعني ذلك تضييق الخناق الاقتصادي على إيران عبر إخراجها من سوق النفط؛ حتى أن الولايات المتحدة قد تدعم إسرائيل لتنفيذ اعتداءات داخل إيران وإنشاء تحالف من الدول العربية لكبح طهران. وهذا التحالف يشتق من «اتفاقيات إبراهام» التي تُعتبر أكبر إنجاز حققته السياسة الخارجية الأميركية في عهد دونالد ترامب، فهي تربط إسرائيل بالبحرين، والمغرب، والسودان، والإمارات، على شكل كتلة معادية لإيران، لكن تلك الاتفاقيات قد تتحول أيضاً إلى ميثاق دفاعي عسكري فاعل ومدعوم من الولايات المتحدة.هذا الوضع يذكّرنا بفترة السبعينيات، حين سلّم الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أمن الشرق الأوسط إلى شاه إيران، واليوم، تسلّم إدارة بايدن مسؤولية احتواء إيران لإسرائيل، لكن هذه المقاربة تحمل مجازفات واضحة؛ فعلى عكس ما حصل منذ خمسين عاماً، لا تحاول الجهة التي كلّفتها الولايات المتحدة بحراسة المنطقة تجنب الصراع، بل إنها اللاعبة الإقليمية التي تسعى إلى تصعيد الوضع، ويجب أن تتبنى واشنطن مقاربة مختلفة إذاً لمنع اندلاع الصراعات عبر تعزيز الأمن الإقليمي والتشجيع على تقوية الروابط الدبلوماسية بين إيران والدول العربية، إنها واحدة من خطوات قليلة لإخماد التوتر المتصاعد في الشرق الأوسط.
نحو إعادة إحياء الاتفاق النووي
في ظل الاضطرابات المتصاعدة اليوم، تتفاوض إدارة بايدن في الدوحة على إعادة إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة»، بالتنسيق مع مسؤولين من الاتحاد الأوروبي، وقد تسمح هذه الخطوة بالحد من الأضرار المحتملة، فقد أدى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، في العام 2018، إلى تقصير المدة التي تحتاج إليها طهران لتصنيع قنبلة وزيادة سطوة المتشددين في إيران، وبموجب الاتفاق الأصلي، كانت إيران ستبقى على بُعد سنة من اكتساب المواد الانشطارية الكافية لتصنيع قنبلة واحدة لكن تلك المدة ستتراجع إلى ستة أشهر بموجب أي اتفاق جديد.أدت الضغوط والعقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على طهران إلى إطلاق فورة من تجارة النفط السرية في إيران، ما دفع الحرس الثوري الإيراني إلى تأمين ميزانيته عبر إدارة جزء كبير من هذه التجارة غير الشرعية مباشرةً. منذ عام 2018، تبيع إيران النفط خلسةً وتمرّ معظم عملياتها التجارية عبر الأسواق السوداء، ما يسمح للحرس الثوري الإيراني ببيع حصته من النفط وبناء تكتلات اقتصادية لصالحه، نتيجةً لذلك، يبقى أكبر جزء من عائدات الحرس الثوري اليوم خارج ميزانية الحكومة الرسمية.يملك أشخاص نافذون داخل الحرس الثوري الإيراني دوافع قوية اليوم لمعارضة أي اتفاق نووي جديد، لأن عائدات النفط الإيرانية ستعود حينها إلى الحكومة الإيرانية. كذلك، سيضطر الحرس الثوري لإخضاع ميزانيته لمراقبة مدنية وسيواجه على الأرجح ضغوطاً عامة للتخلي عن جزءٍ منها، ولن يرحّب الحرس الإيراني بهذا التطور فيما يحاول زيادة قدراته العسكرية للحفاظ على تكافؤ استراتيجي مع إسرائيل، وقد أدت الاعتداءات الإسرائيلية المتزايدة إلى إصرار الحرس الثوري على معارضة الاتفاق باعتباره مكيدة أميركية لإضعاف قدرة إيران على الرد عسكرياً.ربما يعيد أي اتفاق مماثل إحياء الاقتصاد الإيراني فيما تتصاعد مظاهر الاستياء الشعبي محلياً، حتى أنه قد ينتج فرصاً تجارية مهمة مع جيران إيران في وقت تعمل إسرائيل على توسيع علاقاتها مع الدول العربية، وقد يتجاوز قادة إيران الداعمون للاتفاق اعتراض الحرس الثوري الإيراني إذا بدت الوعود الاقتصادية التي ينذر بها الاتفاق مهمة وفورية، وإذا تأكدت إيران من تحقيق تلك الوعود على أرض الواقع. كذلك، قد يؤدي الفشل في إبرام اتفاق مماثل إلى زيادة مخاطر التصعيد مع إسرائيل، ويملك الحرس الثوري الإيراني تأثيراً قوياً على الحكومة الإيرانية، وتكمن المفارقة في اعتراض إسرائيل والحرس الثوري معاً على الاتفاق النووي واستعدادهما لخوض صراع مرتقب.إلى أين؟
خلال الأسابيع المقبلة، سيكون التواصل الأميركي المستمر عاملاً أساسياً لمنع خروج حرب الظل بين إيران وإسرائيل عن السيطرة، قد تتحول الاعتداءات المتصاعدة من الجانب الإسرائيلي وعملاء إيران إلى مواجهة موسّعة، ما يعني تأجيج الاضطرابات من المشرق إلى شبه الجزيرة العربية واحتمال إطالة الأزمات السياسية في العراق ولبنان، وانهيار الهدنة الهشة بين الحوثيين المدعومين من إيران والقوى المدعومة من السعوديين في اليمن، حتى إن هذه الظروف قد تعيد إشعال الصراع في سورية، فتضطر الولايات المتحدة للتعامل مع مشاكل المنطقة مجدداً، مع أنها تفضّل في هذه المرحلة التركيز على روسيا والصين.لتجنب هذه النتائج، يجب أن تُحدد إدارة بايدن الخطوط الحمراء مع الحكومة الإسرائيلية وتُصِرّ على الحد من الاعتداءات الاستفزازية، كذلك، يُفترض أن تطرح الولايات المتحدة استراتيجية تضمن استقرار الشرق الأوسط ولا ترتكز بكل بساطة على احتواء إيران ومواجهتها أو تخفيض أسعار النفط على المدى القصير، بل يجب أن تترافق هذه المقاربة مع إطار عمل مستدام لمنع اندلاع الصراعات. ولتحقيق هذا الهدف، تقضي أفضل طريقة بإبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، غير أن هذا الاتفاق لن يكون كافياً لإرضاء إسرائيل ولن يكبح نشاطات الحرس الثوري الإيراني وعملائه في المنطقة، لكنه قد يبطئ برنامج إيران النووي بطريقة تجعل التحركات الإسرائيلية العاجلة غير ضرورية، ما يعني تراجع الردود الإيرانية الانتقامية القادرة على زعزعة أسواق الطاقة العالمية، بما في ذلك الاعتداءات ضد الناقلات ومنشآت النفط.ومن شأن أي إنجاز مماثل أن يغيّر طبيعة علاقات إيران مع جيرانها في الخليج؛ فقد حاولت طهران تقوية روابطها مع الكويت وسلطنة عمان وقطر، وحرصت أيضاً على تحسين علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي، وبعد خمس جولات من المحادثات بين إيران والسعودية، دخل اتفاق وقف إطلاق النار في اليمن شهره الثالث الآن، سيكون أي اتفاق نووي كفيلاً بزيادة زخم هذه المبادرة. وفي المقابل، قد تتوقف هذه الجهود إذا فُرِضت عقوبات إضافية أو هاجمت إسرائيل برنامج إيران النووي، ما يعني وضع المنطقة كلها على طريق التصعيد الخطير.وحتى لو لم ينشأ أي اتفاق نووي، قد يسمح تعزيز التواصل العربي الإيراني بكبح النشاطات الإيرانية العدائية في المنطقة، لكن ذلك لن يحصل من دون إطلاق مسار حقيقي لتحسين العلاقات العربية الإيرانية. ورغم قلق بعض الدول الخليجية من إيران فإنها لا تريد أن تندلع حرب بين إيران وإسرائيل، كذلك، تهتم دول الخليج العربي بإنهاء الصراعات الإقليمية، لا سيما في اليمن، وللاستفادة من وقف إطلاق النار الراهن هناك، يجب أن يستمر الحوار السعودي الإيراني بغض النظر عن مصير الاتفاق النووي.قد تحصل واشنطن على فرصة مناسبة لإعادة توجيه الأمن الإقليمي بعد تقوية العلاقات الدبلوماسية بين إيران وجيرانها العرب، ومن خلال تكثيف التعاون مع الدول العربية، ربما تحصد واشنطن دعماً متزايداً للسيطرة على أي تصعيد محتمل بين إسرائيل وإيران، لكن يجب أن تجمع بين جهود احتواء إيران عسكرياً وتشجيع المساعي الدبلوماسية الإقليمية للتأثير على تصرفات الطرفَين. تحاول إسرائيل إقناع العرب بالانضمام إلى مظلة أمنية معادية لإيران، وتملك طهران أسباباً وجيهة لثني العرب عن اتخاذ هذه الخطوة، في وقت تستطيع الدول العربية أن تستغل هذا الوضع لحث إيران وإسرائيل على تجنب الاستفزازات المحفوفة بالمخاطر وإبقاء حرب الظل تحت السيطرة، ويجب أن يستفيد بايدن من رحلته إلى المنطقة لتشجيع الطرفين على تبنّي هذه المقاربة.*ماريا فانتابي وولي نصر