في مقابلة مع موقع «بلومبيرغ» في وقتٍ سابق من هذا الشهر، أعلن رئيس سريلانكا، غوتابايا راجاباكسا (الذي فر مؤخرا هاربا من بلاده بعد تظاهرات شعبية ضده)، أن الصين نقلت تركيزها على ما يبدو نحو جنوب شرق آسيا وإفريقيا، وبرأيه، لم تعد الصين تتنبه إلى دول جنوب آسيا الغارقة في المشاكل المالية بقدر ما كانت تفعل سابقاً.ويرى راجاباكسا أن سريلانكا عجزت عن تأمين خط ائتمان بقيمة مليار ونصف المليار دولار من بكين، كذلك، لم تردّ الصين على الطلب الذي تلقاه الرئيس شي جين بينغ حول منح قرضٍ بقيمة مليار دولار لشراء المنتجات الأساسية، في اليوم التالي، طمأنت الصين سريلانكا إلى التزامها المستمر بمساعدتها على حل مشاكلها المالية، لكن لم تصل أي مساعدات من الصين بعد مرور شهر تقريباً.
صرّح الوزير السابق والنائب المستقل، باتالي تشامبيكا راناواكا، أمام وسائل الإعلام منذ أيام، بعد لقائه مع السفير الصيني تشي شين هونغ، بأن الصين ليست راضية على خطوات اتخذتها إدارة راجاباكسا، لا سيما إقدامها على إلغاء أعمال بعض الشركات الصينية التي كانت قد فازت بمشاريعها عبر التنافس مع الآخرين في عهد الإدارة السابقة.هذه التطورات أقنعت الكثيرين بأن الصين ليست صديقة البلد في جميع الظروف كما كانت تدّعي، وعلى عكس الآراء الشائعة حول خطط الصين الوافرة لسريلانكا، يبدو أن بكين لم تنزعج من الهند ولم تمتعض من تقوية المكانة الأميركية في سريلانكا.ذهبت الصين إلى حد الإشادة بالهند التي تتابع مساعدة سريلانكا، مع أن بكين تدرك أن هذه المساعدات قد تجعل سريلانكا خاضعة للنفوذ الهندي، علماً أن معظم المساعدات الإنسانية تشتق من التعاون مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية، ويبدو أن الصين لا تهتم إذاً بمنافسة الهند والولايات المتحدة هناك.لكن يُفترض ألا يتفاجأ أحد بهذه التطورات عند الاطلاع على تاريخ جمهورية الصين الشعبية ومراجعة مسار تطوّر سياساتها.
بكين أول من ينسحب
لا يتذكر الكثيرون أن جمهورية الصين الشعبية تورطت في مساعي بناء الأوطان في عدد من دول العالم الثالث خلال العقود الأولى بعد تأسيسها، على غرار الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وخلال الخمسينيات والستينيات، دعم الرئيس ماو تسي تونغ خيار الصراع المسلّح، بما يتعارض مع مناشدات الاتحاد السوفياتي للتعايش السلمي وتحسين العلاقات، كذلك، حاربت القوات الصينية إلى جانب القوميين والاشتراكيين في الجنوب العالمي.لكن خلال السبعينيات، تخلّت بكين عن رؤيتها المرتبطة بإحداث ثورة عالمية بالكامل، ويعكس موقفها الراهن استعدادها للانسحاب من مشروع بناء العالم والأوطان قبل خصومها.بعدما استضاف ماو نظيره الأميركي ريتشارد نيكسون في عام 1972، تخلّت بكين عن خطاباتها النارية ودعمت مجموعة متنوعة من الأنظمة في الجنوب العالمي، رغم معارضتها للاشتراكية، تزامناً مع إعادة بناء اقتصادها محلياً. دعمت الصين مثلاً رئيس الوزراء السريلانكي سيريمافو باندارانايكي، وأخمدت حركة التمرد الشيوعية «جاناثا فيموكثي بيرامونا» في عام 1971، واعترفت بنظام أوغستو بينوشيه في تشيلي، وعارضت «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا».لكن لم يبذل البلد أي جهود لتحويل الجنوب العالمي إلى نسخة من الصين، لم يكن دعم بكين لأي حكومة عميقاً بما يكفي لمنعها من تقليص خسائرها عند الحاجة، وفيما تتجه الصين اليوم للتحول إلى أبرز قوة اقتصادية في العالم، يُصِرّ البلد على حصر علاقاته مع شركائه في إطار التجارة، باستثناء روسيا وإيران على الأرجح.فورة مشاريع
تجاوزت الصين الأزمة المالية عام 2008 من دون مواجهة أي أضرار عموماً بفضل قطاع البناء المحلي، وحين أنهت بكين تشييد جميع أنواع البنى التحتية محلياً، سرعان ما أدركت أنها تستطيع استخدام فائض قدراتها لإنشاء البنى التحتية في الدول الآسيوية والإفريقية.في نهاية الحرب الأهلية التي امتدت على ثلاثين سنة في سريلانكا، اعتبرت حكومة راجاباكسا تطوير البنى التحتية الطريقة الأكثر أماناً لتحريك عجلة الاقتصاد الذي تأثّر سلباً بالحرب. بحلول عام 2009، كان البلد يحتاج إلى إعادة إعمار المناطق الشمالية والشرقية التي مزّقتها الحرب وبناء الموانئ والطرقات السريعة لتحسين نقاط الوصل بين مختلف المناطق، لكن إدارة راجاباكسا اعتبرت مشاريع البنى التحتية طريقة لتحسين صورتها وأداة ممتازة لجمع الثروات الشخصية. لم تتردد الشركات الصينية الناشطة في محيط البلد في بناء كل ما تريده عائلة راجاباكسا، طالما تتلقى المال مقابل أعمالها. هكذا بدأت سلسلة من المشاريع المشتركة مع الصين بين عامي 2009 و2014.تقديم القروض
عمدت الصين في مناسبات معينة إلى تقديم القروض لكل من يطلب منها. لم تكن الشركات الصينية، المملوكة للدولة أو الخاصة، تملك خبرة واسعة في مجال الإقراض التجاري للجنوب العالمي، فطبّقت مقاربة واسعة النطاق وعالية المخاطر وسرعان ما تراكمت الديون غير المُسدّدة. في 2022، تبيّن أن معظم هذه الديون غير قابلة للاستمرار. أثبتت المحاولات الأخيرة لإعادة هيكلة الدين في زامبيا إلى أي حد يفتقر المقرضون الصينيون إلى الخبرة والجهوزية. يُصِرّ بعض منتقدي سياسة الإقراض الصينية على احتمال أن تستولي الصين على الأصول الاستراتيجية، في أوغندا وكينيا وزامبيا مثلاً، بسبب تخلّفها عن سداد ديونها، لكن لم يحصل ذلك في أي مكان، حتى إن آخر التطورات في زامبيا وسريلانكا أثبتت أن الصين لا تستطيع فعل الكثير حين تتخلّف الدول عن تسديد ديونها.أمام هذا الوضع، تبنّى المقرضون الصينيون، بما في ذلك بنك الصين للاستيراد والتصدير وبنك التنمية الصيني، مقاربات أكثر حذراً في مجال الإقراض، وفي نوفمبر 2021 مثلاً، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ خطاباً في السنغال، أمام منتدى التعاون الصيني الإفريقي الذي يُعقَد كل ثلاث سنوات، فقال إن الصين تتجه إلى تقليص الأموال التي تقدّمها إلى إفريقيا بنسبة الثلث، كما أنها ستزيد تركيزها على الشركات الصغيرة والمتوسطة، والمشاريع الخضراء، وتدفق الاستثمارات الخاصة، بدل مشاريع البنى التحتية الضخمة.يجب أن يواجه غوتابايا راجاباكسا اليوم هذا التحول الصيني من المشاريع الضخمة وعالية المخاطر إلى الصفقات التي تُبرَم بناءً على مزاياها الخاص وتحافظ على نطاق أصغر حجماً يسهل التحكم به.أهمية سريلانكا
تسود فكرة شائعة مفادها أن جميع القوى البارزة في العالم تحسد سريلانكا على موقعها الاستراتيجي، إذ تقع سريلانكا على مقربة من الممرات البحرية الأساسية، وتُعتبر مهمة بالنسبة إلى أي قوة بحرية، وكانت القوى البحرية البارزة حاولت استعمار هذا البلد على مر القرون. كان أعضاء معظم الأحزاب السياسية والأكاديميون والصحافيون في سريلانكا مقتنعين بأهمية بلدهم بالنسبة إلى المصالح الصينية الاقتصادية والدفاعية المستقبلية، لهذا السبب، لطالما استخفت إدارة راجاباكسا بالمساعدات الصينية، بقيادة زعيمٍ لا يحمل أي خلفية سياسية سابقة ويتلاعب به سياسيون ورجال أعمال مبتدئون، نتيجةً لذلك، ظنّ مؤيدو الصين ومعارضوها أن بكين ستهبّ لمساعدة سريلانكا خلال الأزمة الاقتصادية الراهنة.لكن لم يدرك هؤلاء حتى الآن أن الصين ليست قوة بحرية وأنها لا تهتم بتطبيق دبلوماسية فخ الديون مع سريلانكا، ستتابع بكين فرض هيمنتها في بحرَي الصين الجنوبي والشرقي وأجزاء من المحيط الهادئ خلال السنوات المقبلة. كذلك، يملك البلد ثلاث حاملات طائرات، وتثبت التعزيزات العسكرية المقترحة أن الصين لا تنوي تحدّي القوة البحرية الأميركية أو الهندية في المحيط الهندي، وتعجز الصين اليوم عن حماية استثماراتها في سريلانكا، ولن تتمكن من حمايتها يوماً على الأرجح، إذا اعتبرت الهند الوجود الصيني تهديداً لمصالحها.بدأت الصين تحاول تحسين علاقتها مع الهند منذ فترة، ونظراً إلى المواقف المشتركة بين بكين ونيودلهي تجاه روسيا، تعتبر الصين هذا الوضع فرصة مناسبة لتعزيز جهودها الرامية إلى تحسين روابطها مع الهند.أخيراً، لن تغتني الصين من التعامل مع سريلانكا، في المقابل، تُعتبر الهند سوقاً ضخمة ذات قدرات هائلة، وبعبارة أخرى، لن تتردد الصين في التخلي عن سريلانكا إذا كانت هذه الخطوة تسمح لها بتحسين علاقاتها مع الهند.*راثيندرا كورويتا