تشكل المحكمة العليا الفدرالية صمام الأمان للديموقراطية الأميركية والدرع المتينة التي تتكسر على أطرافها كل محاولات التسييس والتأثير. هذا التوصيف الذي يردّده المقتنعون بالنظام الدستوري والقضائي للولايات المتحدة الأميركية، وإن شكل جانباً من جمالية «الحلم الأميركي»، فإنه يخفي بعضاً من أوجهه المختلفة! فنظراً للأهمية الثابتة والكبرى التي تحظى بها هذه المحكمة منذ تأسيسها عام 1789، وفي ضوء ما لديها من اختصاصات حاسمة - تقديرية إلى حد بعيد- تبت من خلالها في كثير من القضايا الفدرالية الحساسة، وتمكنها من تفسير الدستور وإبطال القوانين والتوجيهات الرئاسية، كانت هذه المؤسسة وما زالت، بتشكيلها ودورها وأحكامها، محل تجاذب سياسي وصراع حزبي في بلاد العام سام.
وفي هذا السياق، اعتبر زعيم الجمهوريين بمجلس الشيوخ ميتش ماكونيل أن إعلان الرئيس جو بايدن في أبريل 2021 تشكيل لجنة لإصلاح المحكمة العليا يشكل «هجوماً مباشراً على النظام القضائي المستقل» في أميركا. جاء ذلك تعليقاً على قرار الرئيس الأميركي، الذي اتخذه تحت شعار تحسين العدالة الفدرالية، بتشكيل لجنة خبراء -ديموقراطيين وجمهوريين- أوكل إليها مهمة درس الجوانب الأكثر حساسية لإصلاح المحكمة العليا، كعدد ومدة ولاية أعضائها، وقواعد وإجراءات عملها.وبصرف النظر عمّا أسفرت عنه هذه اللجنة التي لم يرشح إلينا من نتائجها أي شيء مؤثر أو جوهري، فإن الخطوة بذاتها وردّات الفعل عليها من قبل الخصوم السياسيين تدلل على حجم البصمة والتأثير الذي تتركه المحكمة العليا في الحياة السياسية الأميركية.هذا التأثير لا شك أنه متبادل، بمعنى أن السياسيين يحاولون بشتى الوسائل وفي كافة المراحل وضع اليد على المحكمة أو ممارسة الضغط الإعلامي والمعنوي على أعضائها، وبالمقابل فإن قراراتها -وإن غلّفت بطابع قضائي- قد تترك عواقب مباشرة على رؤية الأحزاب السياسية وقد تؤثر في مستقبل الحكّام أو تغير ملامح الوجه الاجتماعي والثقافي والحضاري لأميركا. تجدر الإشارة إلى أن التأثير السياسي في المحكمة يجد جذوره في الدستور الأميركي لناحية النص على التوازن في صلاحية تعيين شواغر المحكمة بين رئيس الولايات المتحدة الأميركية والكونغرس، إذ تخول المادة الثانية، القسم 2، البند 2 من الدستور الرئيس أن يرشح الأشخاص الذين يرغب في تعيينهم كمسؤولين عموميين، بما في ذلك قضاة المحكمة العليا، على أن يخضع ترشيحه لتأكيد مجلس الشيوخ بما يسمى «المشورة والموافقة». تتألف المحكمة العليا من رئيس القضاة في الولايات المتحدة وثمانية قضاة مساعدين يعينون مدى الحياة، ويشغل عضوية المحكمة حالياً ستة قضاة محافظين -ثلاثة منهم عينهم الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب- بينما يعتبر الأعضاء الثلاثة المتبقون في عداد الليبراليين الأقرب إلى توجهات الحزب الديموقراطي، ومنهم القاضية «كيتانجي براون جاكسون التي حازت منصبها في 30/6/2022 خلفاً للقاضي ستيفن بريير، الذي أعلن تقاعده في وقت سابق من هذا العام.يمتلك كل قاضٍ في المحكمة صوتاً واحداً، وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من القضايا في التاريخ الحديث قد تم الفصل فيها بالإجماع، إلا أن الفصل في بعض القضايا الشديدة الحساسية قد شهد تفاوتاً في آراء المصوتين، مما يؤكد مرة أخرى على تأثير المعتقدات الأيديولوجية والقناعات السياسية للقضاة على قرارتهم في المسائل المعروضة عليهم.وقد تجلّى الأمر مؤخرا في عدة قرارات مصيرية اتخذتها المحكمة بشأن بعض القضايا الحساسة التي تؤثر على حياة شريحة كبيرة من المجتمع الأميركي وتتصل بقوة ببعض الثوابت الدستورية والحقوق والحريات التي يعتبرها الكثيرون مقدسة وثابتة كحمل السلاح، والمناخ والبيئة، وزواج المثليين... إلخونذكر في السياق قرار المحكمة التاريخي الذي صدر مؤخراً بتاريخ 24/6/2022 بأغلبية ستة أعضاء، والذي من خلاله أيدت المحكمة قانوناً صدر في ولاية «مسيسيبي» بحظر الإجهاض بعد خمسة عشر أسبوعاً من الحمل، متراجعة بذلك عن حكم سابق لها صدر عام 1973 في قضية «رو ضد وايد» يتيح للمرأة الإجهاض ويقننه على مستوى البلاد، رافعة بذلك صفة الدستورية عن حق الإجهاض الذي استفادت منه المرأة الأميركية طوال نصف قرن.وقد ندد الرئيس جو بايدن بالحكم، ووصفه بأنه يتبنى «نهجاً متطرفاً وخطيراً» فاتحاً بذلك نقاشاً حاداً وعميقاً حول دور المحكمة العليا في تغيير ملامح الولايات المتحدة الأميركية، على اعتبار أن الحكم -ودائماً وفق الرئيس بايدن - سيشرع الأبواب أمام تغيير الأحكام المتعلقة «بمجموعة كاملة» من القضايا التي تؤثر على الحياة الشخصية.في نفس الاتجاه يُظهر الإعلام «الديموقراطي» الأحكام الأخيرة على أنها تراجع ممنهج وعمدي في مسار الليبرالية الأميركية وتفريط بحريات مكتسبة وإهدار لسمعة المحكمة العليا على يد قضاة تغلبت قناعاتهم الأيديولوجية وارتباطاتهم السياسية على موضوعية قراراتهم وحيادية وظيفتهم، مما يخشى معه أن يستمر المحافظون -بعد فشلهم في تحقيق مآربهم عبر المؤسسات السياسية- بتحقيق مرادهم من خلال سلسلة أحكام مدروسة ومسبقة التحضير تنقل بها المحكمة الفدرالية الولايات المتحدة من ضفة إلى أخرى وتبدل وجهتها إلى مزيد من التشدد، الأمر الذي قد يشي بصحته تراجع الأعضاء المحافظين، الذين عُيِّنوا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب» عن تعهدهم خلال جلسات امتحانهم أمام اللجنة العدلية في مجلس الشيوخ بأن «يحترموا» قرار المحكمة الذي يؤكد على حقّ المرأة في الإجهاض.الواقع أن توسع رقعة النقاش حول موقف المحكمة العليا ودورها المؤثر في حياة الأميركيين ساهم إلى حد بعيد في تراجع ثقة الجمهور بها، إذ تشير استطلاعات الرأي التي قام معهد «غالوب» في الشهر الماضي إلى أن (25 في المئة) فقط من الأميركيين ما زال لديهم «قدر كبير من الثقة بالمحكمة»، كما أثبتت الأرقام أن ثلثي الأميركيين لا يؤيدون إزالة حق الإجهاض تماماً، كما عاكس أكثر من ستين في المئة تأكيد المحكمة على إجازة التعديل الثاني للدستور حق المواطن في حمل السلاح في الأماكن العامة لـ»الدفاع عن نفسه».هذا الاهتزاز في صورة المحكمة العليا، لا يعود في حقيقة الأمر إلى الانقسام الطبيعي في الرأي حيال أي قضية تقليدية تتناولها المحكمة أو تبت فيها، ولكنه يعود إلى حساسية الملفات التي أخرجتها المماحكة «السياسو-قضائية» من الأدراج لترجّح دفة على حساب أخرى في لحظة تاريخية تشهد خلالها الولايات المتحدة الأميركية شرخاً ملحوظاً يتزايد تدريجياً في البنية المجتمعية والسياسية، مما يخشى معه أن تتدهور الأمور وتتجه نحو الانفلات الشعبي أو الأمني.وبغض النظر عن الرأي الشخصي في مسألة الإجهاض أو غيره من القضايا المثيرة للجدل، فإذا ثبت استخدام القضاء من قبل جهة على حساب جهة أخرى، فإن ذلك غير مستثنى من قاعدة أن الأيام دول.****يقول ابن خلدون إن «فساد القضاء يُفضي إلى نهاية الدولة»، ومن أوائل مظاهر القضاء على القضاء إفساده بالسياسة وتدخل السياسيين في أعماله.
مقالات
هل تغيّر المحكمة العليا وجه الولايات المتحدة الأميركية؟
17-07-2022