عواقب استقالة جونسون على أوروبا
شهدت بريطانيا اضطرابات كثيرة في السنوات الأخيرة، لكن مستقبلها لا يبدو واعداً بأي شكل، فلا تزال التوقعات الاقتصادية قاتمة، ويواجه نظام الرعاية الصحية أعباءً هائلة، ومن المتوقع أن يرتفع مستوى التضخم لأكثر من 10% في الخريف المقبل، ولا أحد يعرف معنى خطة «بريكست» على أرض الواقع.يتساءل الألمان والأوروبيون الآخرون من جهتهم عن إمكانية اعتبار المملكة المتحدة شريكة مناسبة على المدى المتوسط، فهل أصبحت هذه الجزيرة الغارقة في الأزمات المحلية والنقاشات العقيمة حول أوروبا مكاناً غير متوقع بالنسبة إلى العالم الخارجي؟أعلن بوريس جونسون استقالته يوم الخميس الماضي، لكنه المسؤول الأول عن انهيار الثقة بالحكومة البريطانية في عدد كبير من العواصم الأوروبية، فقد أصبحت العلاقات بين برلين ولندن باردة لأقصى حد، لكن مشكلة بريطانيا لا تقتصر على تشوّه صورتها بكل بساطة، فسمعة البلد كقوة متوسطة وبراغماتية تحطمت مع وصول جونسون إلى السلطة، ويسهل أن نتوقع الراحة التي شعر بها المسؤولون في مكتب الرئيس الفرنسي في قصر الإليزيه أو في دار الاستشارية الألمانية في برلين حين أعلن جونسون استقالته.
لكن حزبه سيضطر لمتابعة النقاش حول مكانة البلد بالنسبة إلى بقية دول أوروبا لأن الخلافات لا تزال محتدمة حول هذه المسألة، رغم مرور ست سنوات على الاستفتاء المرتبط بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ورغم رحيل جونسون، لن تنتهي المعركة القائمة بين المعسكر الأيديولوجي الذي يرفض كل ما له علاقة بأوروبا، والمعسكر المعتدل الذي يعتبرها ضرورة اقتصادية للتقرب من القارة ككل، باختصار، لا تزال خطة «بريكست» تُهدد استقرار البلد الداخلي.في مطلق الأحوال، لا بديل عن بريطانيا في أوروبا، ففي دول البلطيق، وبولندا، وجمهورية التشيك، وبلدان أخرى من شرق أوروبا ووسطها، تُعتبر لندن شريكة جديرة بالثقة أكثر من برلين، وقد حصد جونسون الإشادة بسبب زياراته إلى كييف ومبادراته الواسعة تجاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مقابل اكتفاء نظراء جونسون، أولاف شولتس وإيمانويل ماكرون وماريو دراغي، بالسفر إلى أوكرانيا في مرحلة متأخرة برأي تلك الدول، فلم يذهبوا إلى كييف إلا في الشهر الماضي.كذلك، بدأ الجيش البريطاني يدرّب الجنود الأوكرانيين منذ سنوات، وتحظى بريطانيا بدعم مختلف الأطراف هناك لأنها اتخذت موقفاً مبكراً وعلنياً ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكن حدود الدور البريطاني بدأت تتّضح في أوكرانيا أيضاً، ففي وثيقة استراتيجية طال انتظارها حول سياسة بريطانيا الخارجية والأمنية الجديدة، أعلنت الحكومة البريطانية السنة الماضية عن تحويل تركيزها إلى منطقة المحيط الهادئ.غير أن هذا التحول بدأ يطرح المخاطر اليوم، إذ تحتاج القارة الأوروبية إلى السفن والجنود والأسلحة من بريطانيا، وسبق أن أعلنت لندن أنها تُخطط لزيادة تدخلها العسكري في منطقة البلطيق. في شهر أبريل أرسل وزير الدفاع بن والاس الدبابات والمدفعيات و8 آلاف جندي لتنفيذ التدريبات في المنطقة، ويشارك البلد أيضاً في تسليم الأسلحة والطلعات الاستطلاعية والعمليات الاستخبارية.تفرض الظروف الراهنة على الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تكثيف التعاون بينهما بعد سنوات من الفتور المتبادل، وإذا أرادت بريطانيا أن يتعامل معها الآخرون بجدّية ومن دون توسيع التزاماتها الخارجية بدرجة مفرطة، فيجب أن تبني الجسور مع الآخرين بدل تدميرها.لم يتحقق شيء من الوعود التي حملها شعار «بريطانيا العالمية» حين قررت الحكومة في لندن تخفيض المساعدات التنموية والانسحاب من برنامج التبادل الطلابي مع جامعة «إيراسموس» الأوروبية، حتى أنها حاولت ترحيل المهاجرين إلى رواندا بطريقة غير شرعية... وبعد نهاية عهد جونسون، من الواضح أن مهمة شاقة تنتظر الدبلوماسيين البريطانيين.* كريستوف شورمان