رؤية «الكويت بلا نفط» (1 - 3)
في 30 يناير 2017 أعلنت الحكومة عن «رؤية الكويت في 2035» لتكون البلاد مركزا ماليا وتجاريا وثقافيا إقليميا جاذبا للاستثمار، لكنها قدّمت استقالتها قبل نهاية العام، لتأتي بعدها عدة حكومات تُذكّر بالرؤية ثم تستقيل. ولم تحظَ تلك الرؤية بالاهتمام اللازم من الحكومات، ولم يتحمس لها الشعب.غالبا ما تكون الرؤية إمّا هدفا نأمل تحقيقه في المستقبل، أو كارثة متوقعة لا بدّ من الاستعداد لها. «رؤية الكويت بلا نفط» من النوع الثاني، لكن لدينا - ولله الحمد - ما نحتاج إليه للاستعداد لها وتجاوزها متى توافرت الرغبة. دول كثيرة استطاعت أن تنمو وتزدهر من دون ثروات طبيعية، وحتى الكويت قبل النفط، وجدت ثروتها في انفتاح المجتمع وتنوّعه الثقافي واستعداده لقبول الغير والتعايش معه، وذلك ما جذب أجدادنا للهجرة إليها حين كانت الملاذ الوحيد المفتوح في تلك الفترة لكل من ينشد الأمن والسلام والحرية.
هذه الثروة لا تزال متوافرة، لكنّنا أهملناها بسبب الفوائض المالية التي غيّرت من طباعنا، فأصبح المواطن يجلس في الكرسي الخلفي تاركا القيادة بالكامل للحكومة، لتبيعنا بأسعار رمزية الخدمات العامة الباهظة الثمن بسبب المبالغة في التوظيف والهدر والفساد.لذلك تراجعت أهمية المواطن الذي انحصر طموحه بوظيفة حكومية مضمونة ومرتب جيد، من دون عمل، فأصبح يقضي وقته في البحث عن ثغرات قانونية أو واسطة تمكّنه من الحصول على مميزات إضافية مدفوعة الثمن.تعوّد المواطن على هذا النظام، وبدأ يخاف على مكتسباته من اقتراحات إصلاحية تنشر من حين لآخر تطالب بوقف التوظيف الحكومي والدعوم وغيرها من مميزات، فازداد نشاط الدواوين في جميع المناطق لدعم وانتخاب مَن يحارب الإصلاح ويَعِد بالمحافظة على المكتسبات، ويطالب بإغلاق البلد وتخفيض أعداد الزوار والوافدين، وزيادة الدعوم والعلاج في الخارج خلال الصيف، وتصحيح التركيبة السكانية والتكويت وزيادة رواتب الموظفين والطلبة والمتقاعدين، لننتهي ببرلمانات ترضي المواطن على حساب أبنائه.هكذا خسرنا الصفات والقيم التي ساهمت في جذب العقول والكفاءات واتخاذ القرارات التنموية الصحيحة، ونسينا المرسوم الأميري رقم 106 لعام 1976، الذي أمر بإنشاء صندوق استثماري لتأمين مستقبل الأجيال القادمة، وحذّر من الاعتماد الكلي على ثروة النفط الناضبة، فتدهور التعليم وتخلّفنا عن مواكبة التقدم الحاصل في المنطقة والعالم.لم يكن القصد من عبارة «تأمين مستقبل الأجيال القادمة» في المرسوم، احتكار 85 بالمئة من العمالة الوطنية في وظائف حكومية للاستفادة منهم أقل من ساعة واحدة في اليوم. كان هدفه تنمية قدرات المواطن وتشجيعه ليكون متعلما منتجا يفيد نفسه وأسرته وبلده، ليستبدل الفوائض المالية الناتجة عن ثروة ناضبة بثروة وطنية مستدامة. إن «رؤية الكويت بلا نفط» هي الرؤية الإصلاحية التي يمكنها أن تنقذ حاضرنا ومستقبلنا تماشيا مع روح المرسوم.إنها المستقبل الحقيقي الذي علينا مواجهته والاستعداد له، وخريطة طريق للإصلاح والعودة إلى الاستفادة من ثروات أهملناها. لن تحتاج هذه الرؤية إلى صرف الملايين لبناء الجسور والمباني، ولا استيراد المزيد من العمالة، ولكن بإمكانها دعم تطوير برنامج لتقليص تكاليف الجهاز الحكومي ليكون أكثر نجاعة (efficiency) وسهولة للإدارة والمحاسبة والتقييم، مع حفظ حقوق مَن يتم الاستغناء عنهم، ودعم تطوير بدائل أكثر فعالية للدعوم والمِنَح والمكافآت غير العادلة، وبدائل للمؤسسات والهيئات الحكومية التي يتم إنقاذها سنويا من المال العام بسبب تكدّس موظفين لا حاجة لهم. المواطن هو الثروة الحقيقية المستدامة، ولذلك نحن بحاجة لإجراءات تعيد له ثقته بقدراته، برفع مستوى المنافسة والشفافية، وتشجيع مَن يرغب من موظفي الحكومة والطلبة في تجربة العمل الخاص. لا أعرف إن كان الطلبة لا يزالون ممنوعين من العمل، لكن لماذا نسمح لطبيب في وزارة الصحة أن يفتح عيادة خاصة، ولا نسمح لصيدلي أن يفتح صيدلية؟ أو مهندس يفتح مكتبا هندسيا، أو محام يفتح مكتبا قانونيا؟ الأمر مفتوح لكل المهن والتخصصات، وتعارُض المصالح من السهل اكتشافه والسيطرة عليه متى توافرت الرغبة.خطورة هذه المرحلة أنه مع نهاية عصر الصناعة وبداية عصر المعرفة والتواصل والذكاء الاصطناعي سوف يتجاوز النشاط الاقتصادي الحدود الجغرافية، وتنتقل المراكز المالية والتجارية إلى الغيوم. حينها لن يبقى لدينا ما يجذب الكوادر والكفاءات من مواطنين ووافدين للبقاء في بلدنا، ولا للمحافظة على ما تبقى منهم.إننا في سباق مع الزمن، ورؤية «الكويت بلا نفط» هي الاختبار الذي علينا تخطيه قبل نفاد النفط، وهي الاستثمار والاحتياطي الحقيقي لضمان الاستدامة والاستقرار، والوسيلة لرفع كفاءة المسؤولين والحد من القرارات العشوائية التي تتعارض مع المصلحة العامة. الوقت يدهمنا، والإصلاح يبدأ بالعودة إلى الاهتمام بالمواطن وتعليمه، ليفهم الرؤية ويقتنع بجدواها لأداء دوره والمساهمة في تقليص دور النفط بحياتنا. وهذا ما سيكون موضوع الجزء الثاني من رؤية «الكويت بلا نفط».