هل تستطيع النمسا الحفاظ على حيادها في ظل المتغيرات العالمية؟
قال نائب المستشار النمساوي السابق، إرهارد بوسك، في عام 2017، خلال محادثة طويلة أثناء شرب الشاي في مكتبه في فيينا: «تريد النمسا دوماً أن تشكّل جسر تواصل بين الشرق والغرب، لكن المشكلة تكمن في افتقار هذا الجسر إلى هوية واضحة. إذا تصادم الشرق والغرب ولم يعد أحد يرغب في جسر التواصل هذا، ما الذي ستفعله النمسا؟ ما سيكون دورها في هذه الحالة»؟لم يحمل عدد كبير من النمساويين هذا النوع من الرؤية الثاقبة التي تمتّع بها بوسك إزاء ما يحصل في هذا البلد المحايد عسكرياً في وسط أوروبا. كان بوسك واسع الاطلاع ولطالما اتّسم بحس فكاهي ضمني، لكنه كان يتمتع في المقام الأول بموهبة لافتة تسمح له بالربط بين الأحداث الوطنية والتطورات الدولية العامة، وبحسب رأيه، كان حصر هوية أي بلد بدوره كجسر تواصل أبرز مثال على ما فعله بلده المضطرب لتجنب المسائل المؤلمة، لكنه توقّع في أحد الأيام أن تدفع النمسا ثمناً باهظاً بسبب هذا الخطأ.توفي بوسك في شهر أبريل من هذه السنة، بعد أسابيع قليلة على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، لو أنه كان على قيد الحياة اليوم، لأصبح حتماً من الموقّعين على رسالة مفتوحة نشرها خمسون نمساوياً بارزاً في شهر فبراير تتضمن مناشدة قوية للقادة السياسيين والمواطنين النمساويين لتجريد البلد من دوره كجسر تواصل بين الشرق والغرب وإنهاء اتكال النمسا على روسيا في مجال الطاقة وقطاعات أخرى. كذلك، تدعو الرسالة إلى إطلاق «نقاش وطني جدّي حول مستقبل الأمن والسياسة الدفاعية في النمسا»، وهي تطرح أخيراً سؤالاً محورياً طال انتظاره في بلدٍ حوّل الحياد إلى عقيدة علمانية منذ الخمسينيات: هل تستطيع النمسا أن تحافظ على حيادها في العالم المعاصر؟
شمل الموقّعون على الرسالة عدداً من رجال الأعمال، والأكاديميين، والفنانين النمساويين، وبعض السفراء السابقين في موسكو، فكتبوا: «نحن مقتنعون جميعاً بأن سياستنا الأمنية الراهنة لا يمكن أن تستمر، حتى أنها تطرح خطورة على بلدنا». نشأت الاستراتيجية الأمنية الراهنة في النمسا منذ عقدٍ من الزمن، وهي تُحدد التهديدات والتحديات بما يتماشى مع ظروف عام 2013، لكنّ العالم الذي كان قائماً في تلك السنة لم يعد موجوداً اليوم.بعد بدء الغزو الروسي في 24 فبراير، تحركت دول أوروبية حيادية أخرى سريعاً، وبدأت فنلندا، التي تتقاسم تاريخاً مضطرباً وحدوداً ممتدة على 830 ميلاً مع روسيا، تعمل على تقديم طلب فوري للانضمام إلى حلف الناتو، فبعد يوم على بدء الهجوم الروسي، أطلق المسؤولون الفنلنديون نقاشات مكثفة مع حلفائهم، ثم حذت حذوها السويد الحيادية التي تنسّق تحركاتها الأمنية والدفاعية مع جارتها فنلندا. أنهى البلدان منذ ذلك الحين محادثات الانتساب إلى الحلف، وهما ينتظران اليوم أن تصادق كل واحدة من حكومات الدول الأعضاء الفردية في الناتو على بروتوكولات الانتساب كي يصبح البلدان عضوَين رسميَين في الحلف.لقد أصبحت الصدمات الجيوسياسية العالمية قوية لدرجة أن يدعو بعض السياسيين حكومتهم في سويسرا الحيادية إلى التقرب من الناتو، علماً أن سويسرا تشارك أصلاً في عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا. وحتى الدنمارك، الدولة العضو في الناتو التي فضّلت دوماً عدم المشاركة في مبادرات الاتحاد الأوروبي الدفاعية بموجب سياسة الأمن والدفاع المشتركة، سارعت إلى تنظيم استفتاء لإلغاء هذا الإعفاء، وقد صادقت أغلبية كبيرة من الدنماركييين (67 في المئة) على هذا القرار في بداية شهر يونيو، من الواضح أن هذه البلدان شعرت فجأةً بأنها ضعيفة وتفتقر إلى الحماية، لذا تسعى إلى اكتساب درجة إضافية من الأمان، إنها واحدة من اللحظات التاريخية التي تفضّل فيها الحكومات مضاعفة التأمين على حياتها.لكنّ الوضع مختلف في النمسا، إذ بعد شهرين على نشر تلك الرسالة المفتوحة، لم يصدر أي رد رسمي من الحكومة. وتفيد التقارير بأن رئيس النمسا، ألكسندر فان دير بيلين، يدرس الوضع لكن يبدو أنه لا يريد اتخاذ مواقف قوية في هذه المسألة الحساسة نظراً إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية هذه السنة.في هذا السياق، صرّحت فيلينا تشاكاروفا، مديرة «المعهد النمساوي للسياسة الأوروبية والأمنية» في فيينا وواحدة من الموقعين على الرسالة المفتوحة، لصحيفة «فورين بوليسي»: «نحن نكتب مقالات صحفية حول هذا الموضوع ونناقشه، لكننا عالقون، لا يظن أي حزب سياسي أن المسّ بالحياد، أو حتى النقاش حول تداعيات تغيير البيئة الأمنية بطريقة جذرية، يصبّ في مصلحته».بعد المشاركة في حربَين عالميتَين وحرب أهلية دموية خلال الثلاثينيات، يميل النمساويون طبيعياً إلى تجنب الصراعات حتى الآن، وقد أصبحت هذه النزعة جزءاً من هويتهم. بعد عام 1945، حين أدارت قوات الحلفاء شؤون البلد، ولا يزال عدد كبير من النمساويين معادياً للولايات المتحدة حتى هذا اليوم. هم مقتنعون بأن بلدهم في تلك الفترة كان محتلاً من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في آن، حيث بقي الجيش الأحمر السوفياتي على الأراضي النمساوية حتى عام 1955، ثم انسحب من هناك واسترجعت النمسا استقلالها، لكن ذلك لم يتحقق إلا بشرطٍ فرضه الكرملين ويقضي بتمسّك البلد بحياده.منذ ذلك الحين، أصبح «الحياد الدائم» جزءاً راسخاً من دستور البلد، ولطالما طغى الخوف من استفزاز روسيا على السياسة الخارجية النمساوية. طوّر البلد علاقات تجارية وثقافية عميقة مع الاتحاد السوفياتي، ثم مع روسيا بعد تفككه. قد تواجه ألمانيا انتقادات كثيرة اليوم بسبب اتكالها على روسيا، لكن تبقى علاقات النمسا مع موسكو أكثر ودّاً وعمقاً، إذ يعيش عدد كبير من الروس في النمسا لأنهم يشعرون بأنهم في وطنهم هناك.كان لافتاً ألا تنتسب النمسا، ولا السويد أو فنلندا، إلى الاتحاد الأوروبي قبل عام 1995، أي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وأخذ موافقة الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، لكن النمسا لم تنضم يوماً إلى الناتو، حتى أنها لم تناقش خيار الانتساب إلى الحلف مطلقاً، ويكشف استطلاع رأي جديد أن 75 في المئة من النمساويين يرفضون الانضمام إلى الناتو. حتى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تلقى ترحيباً حاراً في فيينا في مناسبات متكررة، رغم إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. قال بوسك في تلك الفترة: «شعارنا واضح: يجب أن نبقى خارج الصراعات! هذه هي استراتيجية الصمود التي نطبّقها منذ سنوات».لكن هذه الاستراتيجية وصلت اليوم إلى طريق مسدود. كتب الموقّعون الخمسون على الرسالة المفتوحة أن حرب العدوان الروسية في أوكرانيا هي «آخر جرس إنذار للعالم الحر الذي تنتمي إليه النمسا أيضاً. لم يخضع حياد النمسا لتقييم موضوعي يوماً، بل إنه أصبح بمثابة أسطورة لا يمكن المساس بها... رغم التحذيرات العاجلة التي يطلقها الخبراء، لم تتحسّن قواتنا المسلحة وأجهزتنا الاستخبارية، بل إنها زادت ضعفاً. نحن نفتقر إلى الجاهزية اليوم ونواجه أسوأ أزمة أمنية في أوروبا منذ عام 1945».في شهر مارس الماضي، أعلن المستشار النمساوي كارل نيهامر، وهو عضو في «حزب الشعب النمساوي» المحافظ، عن مضاعفة الإنفاق الدفاعي في النمسا، من 0.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.5 في المئة. لكن تقول تشاكاروفا من «المعهد النمساوي للسياسة الأوروبية والأمنية» إن النمسا، بصفتها عضواً في الاتحاد الأوروبي، كانت مُلزَمة باتخاذ هذه الخطوة منذ وقتٍ طويل أصلاً.على صعيد آخر، لا يحمل الناتو وحده بند الدفاع المشترك، فالنمسا مُلزَمة بالتضامن مع الآخرين لأنها منتسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وهي تشارك في سياسة الأمن والدفاع المشتركة التي يطبّقها الاتحاد. تشمل المعاهدة الأوروبية أيضاً بنداً عن الدفاع المشترك، لكن النمسا تصرفت طوال سنوات وكأن هذه الواجبات غير موجودة.يذكر مُوقّع آخر على الرسالة المفتوحة، خلال محادثة خاصة مع صحيفة «فورين بوليسي»، أن أوروبا أصبحت اليوم في الشهر الرابع من تغيير جيوسياسي كامل، ومع ذلك «لا يهتم السياسيون في بلدنا إلا بالمؤتمرات الحزبية وفضائح الفساد اللامتناهية. هم يحاولون تجنّب مواجهة الواقع».تحتاج العقيدة الأمنية في النمسا إلى تعديل شامل إذاً، لكن الحكومة ترفض مناقشة هذا الموضوع لأنه يتطلب وقتاً طويلاً. قال نيهامر حديثاً: «كانت النمسا حيادية في الماضي، ولا تزال النمسا حيادية اليوم، وستبقى النمسا حيادية مستقبلاً». في غضون ذلك، لم يسافر السياسيون النمساويون إلى السويد أو فنلندا لرؤية ما يحصل هناك. يقول أحد الموقّعين على الرسالة: «ما زلنا نكبت المسائل المزعجة في مدينة سيغموند فرويد».كان نشر تلك الرسالة المفتوحة بمثابة معجزة أصلاً في بلدٍ يمتنع فيه الناس عن مصارحة بعضهم البعض بالحقيقة. إنه دليل واضح على حجم التغيرات الحاصلة في العالم: لم يعد الحياد الذي طغى على القرن العشرين موجوداً اليوم، ويبدو أن مخاوف بوسك تحققت أخيراً لأن جسر التواصل النمساوي لم يعد يصل إلى أي مكان.* كارولين دي غروتير