دور الواقعيين في إرساء سلام أوروبي حقيقي
لم يفرض الغرب على روسيا شكلاً من السلام «القرطاجي» الذي يتحقق عبر سحق العدو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن عدداً من النقاد حينئذ حذروا من إطلاق ردة فعل قوية ضد الغرب وزرع بذور صراع آخر بسبب الشروط التي فرضها الأميركيون وحلفاؤهم.اعتبر عدد كبير من المفكرين الواقعيين في مجال السياسة الخارجية في الغرب توسّع حلف الناتو، كي يشمل ألمانيا الموحدة وأعضاءً سابقين في حلف وارسو ودول البلطيق، تهديداً مباشراً لأبرز المصالح الوطنية الروسية.انطلاقاً من هذا الرأي، يُفترض أن يُعتبر تبنّي الغرب لموقف سياسي عسكري حازم تجاه روسيا مبرِّراً للتوغلات العسكرية الروسية في جورجيا وأوكرانيا، وقد قارنها البعض بالخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة للرد على تهديدات محتملة في نطاقها الاستراتيجي.
لكن حتى المعسكر الواقعي الذي دعا الولايات المتحدة والناتو إلى مراعاة المصالح الاستراتيجية الروسية المشروعة في أوكرانيا، عبر السماح لروسيا بالسيطرة على المناطق الناطقة باللغة الروسية في شرق أوكرانيا وجنوبها مثلاً، صُدِم بإقدام فلاديمير بوتين على غزو دولة مجاورة مستقلة.ما الذي يدفع هذا المعسكر إذاً إلى إهمال الهجوم الروسي على بلدٍ يحكمه النازيون، كما يزعم بوتين، وكان يُفترض أن يرحّب شعبه بالجيش الروسي بحرارة عند دخوله كييف، مع أن هذا الفريق نفسه كان قد أدان بكامل قوته الفكرية الغزو الأميركي لدولة مستقلة أخرى (العراق) للتصدي لتهديدات غير موجودة وسَخِر من القادة الأميركيين حين توقعوا أن يستقبل الناس في بغداد الجنود الأميركيين باعتبارهم محرّري البلد؟يسهل أن يسخر البعض من موقف الرئيس جو بايدن حين قال إن الحرب في أوكرانيا تطلق مواجهة بين تحالف من الديموقراطيات وقوى الاستبداد، مثلما كان ادعاء بوتين مثيراً للشفقة عندما زعم أنه يقود معركة ضد الغرب المتداعي.لكنّ هذه المواقف لا تغيّر مساعي الأميركيين وحلفائهم لحماية المصالح الاستراتيجية المشروعة في أوروبا، مثلما فعلوا خلال الحرب الباردة، وتحظى هذه السياسة اليوم بدعم النُّخَب والشعوب في الغرب.في هذا السياق، أصبح النقاش حول أهداف السياسة الغربية في هذه الحرب على المدى الطويل ضرورياً، لكن يجب ألا يتعلق هذا النقاش بصوابية دعم الولايات المتحدة للمعركة الأوكرانية ضد المعتدين الروس، بل يُفترض أن يتمحور حول حدود ذلك الدعم الغربي والمرحلة التي تستلزم الضغط على القادة في كييف للتوصل إلى اتفاق دبلوماسي مع روسيا. لكن لا شيء ينذر في هذه المرحلة باهتمام روسيا بعقد اتفاق مماثل، ولا سبب يدفع الغرب إلى الضغط على الأوكرانيين للاستسلام قبل بلوغ تلك المرحلة، حتى لو كانت هذه السياسة مكلفة من الناحية الاقتصادية.يبدو أن معارضي سياسات الناتو يبتهجون أحياناً بأي انتصار روسي في الحرب وباتخاذ الأوكرانيين موقفاً دفاعياً، وثمة مفارقة كبرى في موقف هذا المعسكر الذي يكاد يتمنى هزيمة الغرب، مع أنه يعتبر نفسه «قومياً محافظاً» وداعماً للواقعية السياسية ويزعم أنه يحاول حماية مستقبل الغرب.يُفترض أن يتعامل الواقعيون مع العالم بشكله الراهن بدل التعامل معه بالشكل الذي يُفترض أن يكون عليه لو تبنّت الولايات المتحدة مثلاً مقاربة أكثر تكيّفية تجاه روسيا حين انتهت الحرب الباردة منذ ثلاثين سنة.لم ينشأ ذلك العالم في نهاية المطاف، لكنّ هذا الوضع لا يمنح بوتين الحق في تحدي ظروف أوروبا الراهنة عبر انتهاك المعايير الدولية الأساسية التي تشمل مبدأ السيادة الوطنية، حتى لو انتهكت الولايات المتحدة المبدأ نفسه في العراق وأماكن أخرى.بدل رسم الأحداث التي يُفترض أن تتحقق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يجب أن يحاول الواقعيون في مجال السياسة الخارجية اقتراح بعض الأفكار حول كيفية إرساء ميزان قوى في أوروبا حين تنتهي الحرب في أوكرانيا، لكن يجب أن يضمن الحل هذه المرة تحقيق المصالح الروسية أيضاً.* ليون هادار