كما يجري كل عام في ذكرى قيام ثورة 23 يوليو 52، يتناول كُتاب الأعمدة على صفحات الصحف تقييم هذه الثورة بإرهاصاتها وانكساراتها، بين من يناصبها العداء المطلق، وبعضهم هلل ورقص لانكسارها في 67، كما هتف بانتصاراتها في تحقيق جلاء الإنكليز عن مصر بعد احتلال دام اثنين وسبعين عاماً، وتأميم قناة السويس، وفي حرب السويس لرد العدوان الثلاثي على مصر، وفي بناء السد العالي، وفي وقوف مصر مع تحرير الشعوب المستضعفة من الاستعمار الجاثم على أرضها، والذي كان يستنزف أقوات شعوبها، والقومية العربية التي كانت حلم هذه الثورة، وحلم الشعوب العربية قاطبة، وما حققته الثورة من تنمية اجتماعية للطبقات الفقيرة والمعدومة الدخل، والتي كانت تعيش على الكفاف، وبعض كتاب الأعمدة يؤيدون ثورة 23 يوليو التأييد المطلق دون أن يفسحوا صدورهم لتحليل علمي ونقد موضوعي لهذه الثورة بإنجازاتها وإخفاقاتها. ولا يمكن لدراسة موضوعية جادة لحقبة من الزمن في حياة الشعوب والأمم أن تغفل مقاييس ما أحاط هذه الحقبة من ظروف وأحداث عاشتها الأمم والشعوب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحيتها أكثر من 50 مليون شخص ودمرت أوروبا كلها، وخلّفت الملايين من الأرامل والأيتام، وعاش العالم كله في ويلاتها، حيث تطلعت الشعوب والأمم بعد هذه الحرب لعالم يسوده السلام، في ظل حرب باردة قامت بين أكبر كتلتين أفرزتهما هذه الحرب، وهي الكتلة الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفياتي والعالم الحر كما أسمته الإمبريالية العالمية، ومؤتمر باندونغ في عام 54، والذي شارك فيه قائد هذه الثورة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مع عمالقة آخرين من آسيا وأوروبا والذي انبثقت منه حركة عدم الانحياز التي كان لها تأثير كبير في مجرى الأحداث والتطورات التي خلفت هذه الحرب، حيث تنادت الشعوب بالديموقراطية، وقد كشفت محاكمات نورمبرغ، عن سبب قيام هذه الحرب، وهو الحكم الفردي المطلق، الذي مارس فيه أدولف هتلر أبشع أنواع التعذيب والتنكيل والتصفية لمعارضيه، ليقود بلاده في أقوى حرب عالمية أشعلها لتدمر بلاده عن بكرة أبيها وتدمر العالم كله.
الحلم العربي والجيش الذي لا يقهروقد كنت واحداً من الذين عاشوا شبابهم في الحلم العربي، حلم ثورة يوليو 52، حلم الشعوب العربية قاطبة من الخليج إلى المحيط، وحلم تحرير الأرض الفلسطينية من براثن العدو الصهيوني الذي طرد شعباً من أرضه ليقيم دولته، التي ظللنا لسنوات طويلة نطلق عليها «المزعومة»، فأصبحت ملء بصر ومسمع العالم كله، وأصبح جيشها من أقوى جيوش العالم، الجيش الذي لا يقهر، ولكن المصريين قهروه عندما عبروا قناة السويس، المانع المائي الكبير المحفوف بفتحات «النابلم» التي كانت معدة لتشعل مياه القناة ناراً تحرق كل من تسوّل له نفسه عبورها، كما حطمت سواعد المصريين البواسل خط بارليف المنيع، الذي كان الخبراء في العالم يرون أن القنابل الذرية وحدها القادرة على تحطيمه، وقهر المصريون الجيش الذي لا يقهر.ولم يكن نصر أكتوبر العظيم ليكتمل لولا العون الذي قدمه العرب جميعاً لمصر، ووحدة العرب وتكاتفهم، بقيادة الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز في قطع البترول عن الغرب، فضلاً عن العون المادي الذي قدمته الدول العربية لمصر، ولم يكن نصر أكتوبر ليتحقق لولا القيادة الحكيمة للرئيس الراحل أنور السادات، بطل الحرب والسلام، وقد كان أحد قادة ثورة 23 يوليو.حلم لم يتحققولست مؤهلاً لتقييم ثورة 23 يوليو من كل المعايير التي يقاس بها نجاح أي ثورة أو إخفاقها، خصوصا أنه سبقني إلى هذا التقييم مؤرخون لهم وزنهم وقامتهم في هذا المضمار، ولو اختلفت مع بعضهم في كل أو بعض ما قالوه فقد يكون حكمي غالباً عليه التنظير المجرد من الواقع الذي عاشته مصر في هذه المرحلة، حيث تآمر عليها الكثيرون من دول عظمى كانت لا تريد لهذا المارد العربي الجبّار أن يقوم من كبوته، ليكون له النصيب الأعظم في ثروات بلاده، وفي الجهد الخلاق والمبدع لثروته البشرية، التي أخرجت علماء علموا العالم أجمع في الفلك والطب والهندسة، وأبدعوا في عصرنا الحديث، ومنح بعضهم جائزة نوبل. ولكن تقييمي لهذه المرحلة على زاوية واحدة عشت حياتي كلها في محرابها، أقرأ وأكتب فيها، هي الحلم الذي لم يتحقق، فقد كان أحد المبادئ الستة لثورة 23 يوليو هو إقامة حياة ديموقراطية سليمة، وقد كان الوحيد القادر على إقامة حكم ديموقراطي لمصر هو الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.فقد دوى اسمه وصوته في سمع العالم كله من ألفه إلى يائه، ومن شرقه إلى غربه، وخفق لصوته نبض الجماهير العربية كلها من المحيط إلى الخليج، وحملت سيارته على الأعناق، فلم يكن لينافسه في زعامة الأمة العربية كلها بوجه عام، ومصر بوجه خاص أي منافس لو أنه خاض انتخابات حرة ونزيهة لرئاسة مصر في هذه الحقبة من الزمن دون قيود تفرض على حق الترشيح وحق الانتخاب، والتي تنطوي في حقيقة الأمر على عدوان على حرية الرأي وحق التعبير عنه، كما كان يمكن للاقتراع على انتخابات المجالس النيابية في عهده أن تفوز أغلبية مؤيدة له، وأن تنضج التجربة الديموقراطية في مصر النضج الذي يؤهلها لكي تتبوأ مكانها اللائق بها بين أرقى ديموقراطيات العالم، كما كانت عليه هذه التجربة في أول مجلس نيابي بعد العمل بدستور 23، وهو المجلس الذي خاض معاركه بقيادة زعيم الأمة سعد زغلول ضد السراية والإنكليز، وأرغم الملك على القبول بمبادئ الحكم الديموقراطي بأن الملك يسود ولا يحكم، ولكن من خلفوا بعد لم يحذوا حذوه في ظروف بالغة التعقيد هي الاستعمار الجاثم على أرض مصر، وقد كان يمكن لتجربة ديموقراطية ناجحة يقود زمامها قائد يحتل هذه المكانة الكبيرة في قلوب شعبه هو الرئيس جمال أن تفرز أجيالاً متعاقبة من المستنيرين بفكر القومية العربية وبأفكار الحرية والعدل والمساواة، التي هي المقومات الأساسية للمجتمعات الديموقراطية، بما يحافظ على المكتسبات التي حققها خلال فترة حكمه، فلا تنكسر برحيله، ولا تنزوي بغيابه، بل تبقى صامدة مدى الدهر، لأن من يحملها معه الشعب كله في مؤسسات دستورية وديموقراطية، يختارها الشعب ليحكم نفسه بنفسه.ولذلك فعلى من يدينون بأفكاره ومبادئه أن يتحلوا بالصدق والأمانة في الاعتراف بهذا الخطأ الذي وقع فيه الرئيس جمال، والذي كان سبباً في انكساره، وفي الوحدة العربية التي تحققت بين مصر وسورية، وانكسار مصر في 5 يوليو (1967)، والذي أودى بحياته بعد ثلاث سنوات وبضعة أشهر عاش خلالها يتلظى بنار وهموم أمته العربية ووطنه القطري مصر، ذلك أن غياب الرأي الآخر في ظل التعتيم على الحقائق وعلى الواقع الذي كانت تعيش فيه مصر، كان سبباً رئيسياً لهذا الانكسار، حتى نفيد من هذه التجربة الناصرية الفائدة المرجوة.آخر العمالقةومع ذلك فقد أنصف الغرب الرئيس الراحل جمال بما لم ننصفه، نحن العرب والمصريين، وقد كان الرئيس جمال عبدالناصر أحد العمالقة الذين ضمهم كتاب الصحافي الأميركي الكبير سالزبورغر في كتابه الشهير «آخر العمالقة» الذين اختارهم في الصف ذاته مع تشرشل، وروزفلت وستالين، وأيزنهاور، وديغول، ونهرو، وتيتو، وماو تسي تونغ.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قَلَّ ودلّ: ثورة 23 يوليو وإرهاصاتها وآخر العمالقة والحكم الديموقراطي (1-2)
31-07-2022