تجري في سباق مع الطبيعة، أو ربما هو السباق الذي علمتكِ إياه تلك المرأة التي كانت دوماً أقرب إليك من دقات قلبك... تقرأ أحاديث عينيكِ وتضاريس وجهك وأنتِ طفلة صغيرة، وما إن كبرت وانتقلتِ إلى مرحلة المراهقة التي لم تعرفيها كما الآخريات، قالت لك «أحبي» بل كررت «أتقني الحب واسعدي به حتى لو لم يستمر فيتمأسس في شكل علاقة زوجية»... هي التي علمتك أن تسابقي اليوم قبل أن تخرج الشمس من السماء لتتأملي الغروب وأنت صغيرة جدا، وكل قدرات عقلك الصغير مثلك، لا يدرك ما أهمية أن تراقبي الشمس وهي راحلة في آخر يوم مشمس! تذكرتِها بشدة منذ أيام وأنتِ قد تعديتِ المراهقة بسنين طويلة طويلة، وأنت تسابقين الزمن مرة مع بضع صديقات وأخرى مع صديقات وأصدقاء لا يشبههم أحد، لا في الشكل ولا في المضمون ولا في تفاصيل تواريخ حيواتهم التي مرت بكثير من التعب والجهد والالتزام بقضايا الوطن وبكثير من الحب، بعضه عابر وبعضه ترك بصمة في القلب ورحل...
تتذكرينها وهي ترقد في سريرها في ذاك المستشفى البعيد جدا، والذي لم يعد حتى يشبه ما كان عليه زمن البساطة والمحبة والعلاقات التي لا ترتبط بدفاتر حسابات أو مصالح. وأنت تسابقين الشمس مع صديقات لا يبعدن كثيراً عن سنين عمرك تطمحين لأن تصطادي اللحظة حين تسقط الشمس في آخر البحر أو النهر وتترك خلفها بعض الوهج المستلقي باسترخاء شديد فوق صفحة من الماء المشحون بحكايات من العشق المعتق... تأملتِ اللحظة وهن يتحدثن وكنت تطمحين إلى بعض السكوت في حضور الغروب، فلا يجوز إلا الإصغاء لصوت الضوء وهو يرحل تدريجيا والشمس تسقط في حضن الماء بحراً كان أو نهراً... تمنيتِ أن تحمليها من سريرها فوق كتفك وتضعيها بذاك القارب الشراعي وترحلي بها في حضن الغروب حتى آخر بقعة ضوء منه، وحتى يسكن في عمق الماء وأنت وهي تتحدثان بلغة البهجة المصاحبة للحظات الخاصة جدا وتستمتعان بجمال كان هو بعضاً مما كانت تنشره من الفرح.هي الراقدة في ذاك المستشفى البعيد فوق سرير بشراشف بيضاء بنصاعة قلبها الذي بقي نقياً حتى عندما تعب الجسد منه. تعرفين أنك تعلمتِ القبض على اللحظة منها، وتتسائلين: من أين تعرفت الصديقات على جمال الاسترخاء في وداع الشمس مع آخر النهار؟! تسأليهن واحدة بعد الأخرى وهن يتلعثمن في الإجابة وكأنهن يقلن لماذا تكثرين الأسئلة؟! تصرين على تكرار السؤال وهن دون إجابة مقنعة لأن هناك كثيراً تعودوا على التعلق بلحظة الآخرين وما يسعدهم أو يبهجهم أو حتى أحيانا يحزنهم... قليلون من يعرفون ماذا يريدون وكيف وأين ومع من؟ وأكثر منهم قلةً من يعرفون لماذا يحبون هذا أو ذاك أو الصباح أو المساء، أو هل يفضلون الشروق على الغروب دون الإجابة الممجوجة والمتكررة بأن الشروق هو الأجمل لأن فيه البدايات، بينما الغروب يأتي ببعض الحزن الملازم لختام اللحظة أو العلاقة أو الحب أو السعادة أو حتى اليوم العادي جدا.تعيدين تكرار المشهد أي الحضور الجمعي في حضرة الغروب وفوق مركب شراعي ومع بضعة من الأصدقاء بأعمار وتجارب وخلفيات مختلفة، وهم جميعاً يجرون رغم صعوبة الجري في السن المتقدمة لمراقبة الشمس قبل رحيلها في طقس يشبه ما كان عليه الفراعنة القدماء... هؤلاء من جيل يعرف جيدا ما يحب وما يكره وما يستطيع أن يتحمله بسبب الظروف أو تعرجات الزمن. وهم أيضا يشكلون الذاكرة الجماعية إلى المكان الذي هو يبدأ بشارع فـ حيٍّ فمدينة فبلد يدعى وطناً. هذه مجموعة أخرى من عشاق الغروب ولكن كل فرد منهم يعرف لماذا؟ وكيف ومتى؟ ربما نتيجة للخبرة أو حتى لكونهم من ذاك الزمن الجميل حيث أضافوا بهجة على بهجة مراقبة الغروب الجماعية... وربما لأنهم من جيل كان يعرف معنى الاستمتاع الحقيقي بصحبة البشر وفي حضن الطبيعة، وليس خلف شاشة مشعة لهاتف أو أي باد أو لاب توب أو أي جهاز آخر... هم من عرفوا متعة أن تحمل كتاباً ليكون رفيق لحظات النهار أو بين لقاءين أو محطتين أو موقفين... وهم أيضا من ذاك الجيل الذي يقدر حجم الصداقة وأهميتها في الحياة وكيف يختارون الصحبة بدقة الجراح. كم كان الغروب ممتعاً معهم جميعاً، وكم هو مؤلم أن تكون معلمتي وعاشقة الغروب الأولى هناك على مسافة بعيدة منه ومني وعلى فراش في مستشفى لا يحمل إلا الأبيض ولا شيء من تلاوين سماء ترحل عنها الشمس. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
سماء ترحل عنها الشمس
01-08-2022